الجمعة 2022/04/01

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

قصة طرد مُعلن

الجمعة 2022/04/01
قصة طرد مُعلن
واسيلي كاندينسكي - الجاذبية، 1935
increase حجم الخط decrease
قبل مدة، وتحديداً ليلة رأس السّنة، وعشيّة الاحتفال بانصرامها وقدوم سنة جديدة، وصلني بريد إلكتروني يردني من ربّ عملي في إحدى دور النّشر حيث أعمل منذ سنوات. فوجئت بدايةً، إذ أنه لم يفعلها سابقاً، فلا علاقة مباشرة تجمعنا في العمل سوى عبارات: أحضر لي مزيداً من القهوة أو الماء... نظّف مكتبي جيّداً... لا شأن لك بالأوراق الموجودة على سطح المكتب. لا شأن لك بها حتّى ولو كانت ممزّقة أو ممعوكة كمن يريد رميها... لا علاقة لك بمحتويات المكتب من أوراق. نظّف الزّجاج واترك كلّ شيء في مكانه.

ومردّ هذه الملاحظات الدّائمة التي كان صاحب الدّار يكررها على مسمعي، هي أنّي في بداية عملي عنده، رميت مخطوطة كتابٍ في المهملات، بعدما تصفّحت صفحاتٍ قليلةٍ منها ووجدتها تافهة يعلوها الغبار وآثار بقعٍ من القهوة. كاد أن يرميني من الطّابق السّابع يومها عندما علم بفعلتي، صارخاً بوجهي: "الّلعنة عليك يا جاهل، ماذا أفعل بك؟ لا يوجد قانون يحاكمك على فعلتك". منذ ذلك الوقت ما عدت أتجرّأ على لمس أي ورقة، فما بالك بالمخطوطات؟ هذه كانت الحادثة الوحيدة التي جمعتنا في حوار مشترك.

تابعت سير عملي كالمعتاد، إلى أن جاء هذا الإيميل اللّعين، نظرت فيه وأعدت قراءة ما يحتويه مرّات عديدة، غير مصدّق ما أقرأه، مع أنّه لا يحتوي سوى على عبارة واحدة "أنتَ مطرود". لم أكن أصدّق ما أقرأ وتساءلت بمرارة: "كيف له أن يفعل ذلك بي وفي يوم كهذا؟". وكنت صباحاً قد التقيت به وابتسم لي ووجّه لي كعادته الملاحظات ذاتها. لم يظهر على وجهه أو حركات وجهه أيّ شيء، كان تصرّفه اعتيادياً في كلّ شيء، أحضرت له القهوة، وابتسم وهو مُطأطأ الرّأس كعادته، من دون أن ينبس بأيّة كلمة. لم تظهر تقاسيم وجهه أو تصرّفاته معي أي نوايا مبيّتة لما سيرسله لي قبل أن يغادر مكتبه ظهراً. ما هذا؟ لماذا لم يواجهني بالأمر؟ لماذا لم يترك الأمر إلى ما بعد فترة الأعياد؟ لماذا لم يقم بإخراج أمر طردي بطريقة لائقة؟ لماذا لم يقم بتصفية مستحقّاتي عنده؟ ثمّ، ما السّبب؟  لماذا منع عنّي مواجهته والاستفسار عن الأسباب، وإن كان بالإمكان استمهالي حتى أجد عملاً آخر؟ ضجَّ رأسي بمئة سؤال وسؤال. هل هذا الإيميل هو بمثابة إنهاء عقد عملي، أي لن أعود إلى هناك مجدّداً مع بداية العام الجديد؟ لكنّي لم أسمعه يقول لي ذلك. لم يُمهّد للأمر بأي شيء. تساءلت: "هل أغادر الآن؟".

تبلبلت مشاعري وأفكاري وما عدت أعرف كيف أتصرّف. هممت بالانصراف، لم يلتفت إليّ أحد من الموظّفين، ولم يسألني أحد منهم عن أسباب مغادرتي باكراً، ولم نتبادل عبارات التّهنئة بقدوم السّنة الجديدة كعادتنا كل سنة. شعرت أن الجميع كان يعرف مضمون هذا الايميل، لكن أحداً منهم لم يُواسِني أو يخفّف عنّي أو يُسمعني كلمة حتّى، ولو كانت سيّئة الوقع على أُذني. لم يبادر أحد منهم بأيّ ردّ فعل حيالي، فقط صمت مطبق، الكل يتظاهر بأنّه يقوم بأعمال مهمّة لا يجوز أن يشغله عنها شيء. لممتُ أغراضي وانصرفت رادّاً الباب خلفي بهدوء.

وأنا في الطّريق شعرت بأن الجميع يعلم بأمر طردي من العمل. لاحظت ذلك من الغضب الذي يعتري النّاس كلّما مررت بمحاذاة أحدهم. مررت بمقهىً شعبي غالباً ما أقصده ولي رفقة فيه، كما أن العامل هناك من قريتنا ويسكن في الحيّ المجاور لمكان سكني. مثله مثل الجميع لم يعرني أدنى اهتمام. لم أجد الأمر مشجّعاً لطلب أي شيء والتّنفيس عمّا يعتريني من غضب وحيرة مع من كانوا أصدقائي.

قصدت غرفتي، فوجدت مالكها ينتظرني أمام مدخل البناء طالباً منّي إخلاء الغرفة، من دون أن يقدّم أسباباً لذلك، ومن دون أن يقدّم لي فرصة للاستفسار. حِرتُ في أمر هذا النّهار. دخلت الى سجني، وهناك انهارت قواي وأجهشت بالبكاء. صحوتُ بعد نوبة البكاء هذه مقرّراً الاتّصال بأفراد عائلتي لإبلاغهم بما يجري معي على رأس هذه السّنة الجديدة، لأفاجأ أنّ هواتفهم وبعد محاولات عديدة مع كل منهم، تفيد بأنّ خطوطهم مشغولة. لعن الله التكنولوجيا وهذه الوسائل التي سمّوها زيفاً وسائل تواصل.

رويداً رويداً، شيئاً فشيئاً، بدأ يتفاقم لديّ شعور بالرّيبة والعداء ممّا يحيط بي. فأينما توجّهت وأينما جلست، شعرتُ بهذا الجفاء الذي يوجّهه لي المكان والمتواجدون فيه. قررت عندها اللّجوء إلى الطبّ النفسي، قائلاً في سريرتي، أن مرضاً خطيراً قد ألمَّ بي.

استقبلني الطّبيب بالتّرحاب. وشرحت له ما أُعانيه. فقال مبتسماً: "لا عليك، مجرد أوهام وتهيّؤات..." وسطّر لي وصفة طبيّة، مؤلّفة من عقاقير لم أتهجأها جيّداً بفعل طريقة كتابتها السيّئة، الأمر الذي استدعى من الصّيدلي معاودة الاتّصال بالطّبيب ليفهم منه نوعية الدّواء الموصوف لي تحديداً، وهكذا كان.

تناولت أدويتي بانتظام. وأصبحت عاجزاً عن إبداء أيّ ردود أفعال سلبيّة أو إيجابيّة حيال واقع الجفاء والعدوانيّة اللّذين يحيطان بي. فالعقاقير لم تغيّر إحساسي بهذا الواقع المرير، إلاّ أنّ فعلها وتأثيرها كان منصباّ،ً على ردود أفعالي، ما يضمن منع أي ردّ فعلٍ من قبلي حيالها، يؤثّر في مجراها الطّبيعي. وبالتّالي حوّلتني هذه العقاقير، الى شخص غير مؤثر وغير فعّال.

عندها قرّرت الانصراف عن هذه العقاقير والتوجّه إلى المحلّلين النفسييّن. وبالفعل، فور دخولي إلى عيادة المُحلِّلَة النفسية، استقبلتني بالتّرحاب، وبشرحٍ مسهبٍ عن الفروق النّوعية بين التّحليل، الذي تكمن قوّته في أنّه قائم على تفهّم مجريات الحياة اليومية للمريض النّفسي، وبين الطّب العقلي القائم على تشخيص الأمراض نسبةً لنواقص ما في بعض مكوّنات الدّماغ، وإذا ما كان هناك نقص أو زيادة في ما تفرزه. وإنّ التّحليل النّفسي يبتعد كلياً عن وصف العقاقير.

استبشرت خيراً بهذه الشّروحات، معبّراً عن حالة العداء أو الكراهية التي أشعر بها حيال النّاس والأمكنة. ابتسمت المحلّلة، وكأنّ ما أتكلم عنه موجودة حلوله لديها. فقاطعتني مصرّحة: "لا بأس عليك، في مثل هكذا حالات، أنصح مرضاي بالابتعاد عن كل ما ينغِّص عيشهم، وأن يهتموا بأنفسهم، وأن لا يدعوا أي شيء يؤثر في سعادتهم". "سيدتي" أجبتها حانقاً "أنا راغب ومُتمسّك جداً بالعلاقة مع النّاس، ولا أريد الابتعاد عنهم. لكنّي لا أفهم سرّ هذا الجفاء بيننا". خرجت من عندها وأنا حانِق على الطّب النّفسي، بكل مدارسه وتفرّعاته، وتهديداته لنا بأشدّ العواقب إذا لم نستجب لإنذاراته لنا بضرورة التكيّف. فشعرت أيضاً بعدائه وكرهه لي. وليت الأدبار، وسرت طويلاً في أزقة المدينة وشوارعها، مكتفياً بتناول القهوة، ناسياً أنْ أُطعِم معدتي الخاوية منذ أيام. اعتدتُ السير، وعشقت عادة المشي، مكتشفاً شوارع وأمكنة لم أكن أعرفها رغم صغر مدينة بيروت.

بعد أيام، وأنا أسير في أحد شوارع العاصمة من دون أن أجري أي محادثة مع أحد، لدرجة أنّني اعتقدت أنّي فقدت عادة النّطق والكلام الجيّد، صادفني إعلان في أحد المقاهي، يدعى Good morning Beirut، مكتوب عليه: نؤمّن خدمة إجراء محادثات مع الأشخاص الوحيدين، والّذين يعانون العُزلة، وفي كافة المواضيع، وبأسعار مخفّضة.

دخلت المقهى وجلست فيه. المكان مريح جداً، وهو كما توحي فلسفته، مخصّص للدّردشة. طلبتُ فنجان قهوة وزجاجة ماء، واستفسرت في الأثناء من أحد العاملين هناك عن موضوع الاعلان،  فأجاب: "تتوافر لدينا خدمة إجراء المحادثات حسب طلب الزّبون ورغبته".  فقلت له على عجل: "أريد من يحادثني عن الحياة همومها ومشاكلها وتفاصيلها، العيش بكل أنواعه". فقال لي: "إذاً أنت تريد مثقفاً أو مثّقفة، إذ تتوافر لدينا تعاقدات مع الجنسين". قلت له:" أولاً أريد رجلاً، لأنّه مع المثقّفة قد تتطوّر العلاقة وتصبح مادّة لعلاقة غرامية". قال: "لا عليك، ثمّة شروط موضوعة تقنّن هذه المسألة، وثمنها عالٍ، وهي خاضعة للقبول والرّفض من قبل الطّرفين، ثم أن خطر العلاقة الغرامية قائم حتى بين الرّجال، لذلك لا داعي لمثل هكذا هواجس".

سألته ثانيةً: "لماذا اخترت أو وصفت لي المثقّفين؟". فقال: "لأنّهم ملمّون بكلّ شيء، من كل شيء قليله، الفلسفة أم العلوم، وهي الآن تعتبر كطبّ بديل عن الطّب النّفسي، وهناك الأدب والفنّ على أنواعه".

"حسنا، وما كلفة هذا الأمر؟". ردّ، وكأنه دخل في أمر عملي وجديّ: "نأخذ على الجلسة خمسة وعشرين دولاراً، وفنجان قهوة إلى الذي يجلس معك بعشرة دولارات مع زجاجة ماء، وعلبة سجائر أيضاً بعشرة دولارات، يكون المجموع خمسة وأربعين دولاراً أميركياً. أما إذا ما طلبت للمثقّف أو للمثقّفة الّتي معك ركوة قهوة كبيرة، فعندها ندخل في تسعيرة أخرى، وفي مفهوم مختلف، إذ يحقّ لك عندها أن تصحب في اليوم التالي من تجالسه لقضاء يوم بأكمله أينما تريد".

"حسناً كل هذا جيّد. لكن كيف تضمن أن يكون الأمر طبيعيّاًّ"، سألته، فأجابني متسائلاً: "عن أي أمر طبيعيّ تتساءل؟". قلت له: "عن مجريات المحادثة. كيف نضمن أنّها ستحمل وتكون ذات وجه ومضامين إنسانيّة جداً؟ هل بالإمكان محاكاة طبيعيّة–العلاقات الانسانيّة كما لو أّنها تجري من دون مقابل مادي؟".

هنا، لمحتُ في عينيّ العامل شروداً ذهنيّاً، وكأنّه يتفكر في غرابة طلبات من يحاوره، فقال لي على عجل: "سيدي أرجوك غادر المكان بسرعة، والقهوة التي تناولتها على حساب المقهى، وأرجو أن لا تعود لزيارتنا مجدّداً". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب