السبت 2022/03/12

آخر تحديث: 16:34 (بيروت)

مكتبة الرهانات الخاسرة

السبت 2022/03/12
مكتبة الرهانات الخاسرة
increase حجم الخط decrease
هاجرتُ في مقتبل العمر، بعد هزيمة شخصية وعامة للسرديات التي حركت الثورات في القرن العشرين، على حد وصف الفيلسوف الفرنسي فرنسوا ليونار، أي ثورة أكتوبر والثورة الفرنسية... أتلفت مكتبتي عن غير قصد، كوني كنت لا أزال أراهن على الفكر والفلسفة كرافعتين وأداتين للتغيير. 
 
عدت بعد سنوات قليلة، منهزماً أيضاً، بفعل عجزي عن خوض غمار التجارة في المهجر، وجسمي وعقلي لم يتأقلما مع الوضع الجديد. 

سنوات قليلة، وبعدما استجمعت قواي، عدت لخوض غمار القراءة من زاوية أخرى. كانت مرتبطة هذه المرة بالكتابة والنشر والتحلّق حول "شلة" من المثقفين المبتدئين، فتوسعت دوائر الوهم حول جدية المراهنة على القراءة والكتابة، ليس في لبنان وحده، إنما في العالم، وكنت أتوسع في قراءاتي لكتّاب نجهل عنهم كل شيء، في هذا الشرق، خصوصاً بعد اقتصار سوق النشر (اليسارية) التي أدور في فلكها أو نشأت في كنفها، على الكتب الماركسية والاشتراكية والسوفياتية. والتوسع في القراءة طاول كتّاباً فرنسيين شغلوا الغرب وأرّقوه بأفكارهم، كنت معجباً جداً بهم وبإعادة تأسيسهم للأفكار والأسس التي نشأت عليها، وحاولت إشراك أصدقائي ومعارفي في هذا الاعجاب ولم أجد سوى الصد والسخرية من جدية إيماني بما كنت أقترحه عليهم.

كنت كالمسحور بهؤلاء الفلاسفة، أسبح في عالمهم وأغرق فيه، من دون أن أستطيع تكوين استنتاجات خاصة أو خلاصات تؤدي لشيء بعينه. وكلما ازداد رهاني عليهم وعلى أفكارهم وكتاباتهم، كان العالم يتهاوى من حولي ويصبح أكثر توحشاً واستشراساً، فأدخل في أزمة أبيع فيها مكتبتي، وأعلن بيني وبين نفسي، أن ما أراهن عليه لا طائل منه... رويداً رويداً، كنت أستعيد عافيتي فيمنعني كبريائي من القبول بالهزيمة، وأعود لتأسيس مكتبتي بالشغف ذاته، وأستعيد الرهان على القراءة والكتابة من جديد. 

لأكثر من مرتين أو ثلاث، مررت بهذه التجربة المرّة، وهذا الصراع بيني وبين نفسي. دوامة لا فكاك منها. وفي النهاية استنتجتُ أن أقوال الكتّاب الذين كنت مسحوراً بهم، تأتي كالمطرقة، وأن الفلسفة في العصر الراهن والفكر عموماً، تعيش في قاعات المحاضرات في الجامعات والمراكز الثقافية، وأن دول هؤلاء المفكرين ما عادت تخاف منهم، فهي تأخذ على عاتقها احتضانهم في جامعاتها ويحتلون المنابر العامة والإعلامية المفتوحة لهم وسع الفضاء، كما تدعم ترجمة أعمالهم إلى مختلف لغات العالم... باختصار، لم يعودوا يخيفونها، فهي تحتضنهم بشكل أو بآخر، في حياتهم وفي مماتهم، فتدفنهم بعد رحيلهم في مدافن خاصة تليق بهم، لإعلائهم شأن دولهم في الثقافة والرأي والأدب...

تتذكر أقوال هؤلاء الفلاسفة التي تدوي كالمطرقة مثل "أن التنوير والماركسية حاولا منذ البدء إضفاء طابع أخلاقي على النظام الذي يسيّد هذه الحياة منذ ثلاثمئة سنة أو أكثر لكنهما فشلا"، أو "أن التاريخ يطوي حقباته حقبة تلو الأخرى من دون أن يحل مشاكل الحقبات المنصرمة"، و"أن تعدد المعاني واختفاء الحقيقة هو المسيطر"، أو يأتيك من مكان آخر من يقترح، أمام العجز عن إيجاد الأجوبة، دعوة زملائه الى تجريح أو تمزيق أحشاء قيم وثقافة بلاده، علّهم يجدون شيئاً أو تنطق بالأجوبة، ليجيبه من الضفة الأخرى من ينادينا لإعداد العدّة وتهيئة الظروف والأوضاع لعودة الإله، أو آخر يذكرنا بأن البشرية ليست مرصودة لا للخير ولا للشر. 

شخصياً، تجددت أزمتي مع عدم عثوري لدى هؤلاء المفكرين والمجددين، باستثناء قلة منهم، على أي اهتمام فكري بما تحدثه سياسات دولهم ببلدنا وبلدان العالم الأخرى، التي نتشارك وإياها المعاناة... من هذه السياسات الجائرة لنظام دولهم، الذي يسير العالم ودوله وشعوبه وفقاً لمشيئته، وتجدد إيماني بأن الدول الصغرى كالبلد الذي أعيش فيه، لا مقدرة لديه ولا يملك مقومات رسم مستقبل أبنائه وفقاً لمشيئته بسبب هذه السياسات، أيضاً وجدت الخلاص ليس في الرهان على الفكر كوسيلة تغيير، وليس في الإجابة على السؤال، بل في الخروج منه على حد وصف أحد المفكرين للفكر والفلسفة عموماً، فوجدت ضالتي في إعادة الاعتبار للقراءة والكتابة كحبل خلاص من كل هذه الإشكالات والأسئلة التي يطرحها علينا ظلم هذا العالم وفساده منعاً لإطباق العالم على شخصي وطرداً للملل عن حياتي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب