الأربعاء 2022/02/16

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

"أحدبُ العِشق يتبنّاه الأطفال"

الأربعاء 2022/02/16
"أحدبُ العِشق يتبنّاه الأطفال"
أنسي الحاج
increase حجم الخط decrease
كتبَ العنوان بأحمرِه الأنيق على الورقة السّمراء، وبادرني: "ما قولُك؟". تسمّرت في مكاني وخانني الكلام. أطلق عبارته بمزيجٍ من حنوّ أبويّ ونفحة احترافٍ عالي الكعب، فلم أدرِ ما أفعل. خلتُ لوهلة أنّه يمتحنُ قدرتي على صنع عنوانٍ برّاق، لكنّ ابتسامتَه النقيّة، الطالعة من محيّاه المضيء، أنبأتني بأنّ مقصدَه هو أن يرتقي بي إلى حيثُ يمكنه ألّا يستخدمَ أحمرهُ بعدَ اليوم لتغييرِ العناوين أو تعديلِها، بل أن يكتفيَ بأحمري أنا، رغم أنّ قلمي ما زال يافعاً في هذه الصنعة.

عنوانٌ لمقال في "دليل النّهار" ظلّ عصيّاً عليّ. مقالٌ سينمائيّ، تناول وقتذاك إنتاجاً هوليوودياً جديداً لديزني، يقاربُ بالرّسوم المتحرّكة روايةَ فيكتور هوغو الخالدة "نوتردام دو باري"، ومحورُها عشقٌ مجنون يكنُّه الأحدب اليتيم كوازيمودو، قارعُ أجراس الكاتدرائيّة المَهيبة، لمجنونةِ الرّقص، الغجريّة الفاتنة إزميرالدا. خلطةٌ أدبيّة، تاريخيّة، ترفيهيّة، أصابتني بالحيرة، فلَم أقوَ على اجتراح عنوانٍ لافت للمقال، يصيبُ الهدف. تدخّل معلّمُنا الأستاذ واضعاً بَصْمتَه. وأوغَل في تدخّله، شاطباً من متن النصّ عبارةَ "أحدب نوتردام"، العنوان المترجم لرائعةِ هوغو، مستبدلاً إيّاها باسمِها الأصيل "نوتردام دو باري". 

"هذا هو العنوانُ الذي اختاره صاحب الرّواية"، قال، "ما لنا ولفلاسفة التّرجمة".

من حُسن حظّي في تلك الأيّام أنّ موعدي مع معلِّمنا كان أسبوعياً. كنتُ أحملُ إليه، ليل كلّ أربعاء، المادّة المصحّحة من العدد الجديد لـ"الدّليل"، قبل أن تسلكَ طريقها إلى المطبعة. أتأبّط المغلّف الأصفر، وأصعد إلى الطّبقة الثّامنة من "نَهار" شارع الحمراء، حيثُ المكتبُ الوسيع ذو الموكيت الرمادي. انتظاري كانَ يطولُ أحياناً لِكثرة انشغالاته رئيساً للتحرير، غير أنّه كان لذيذاً مهما طال. مرّاتٍ، تكون الجلسةُ على عجَل، يكتفي فيها بإلقاء نظرة سريعة على عناوينِ الموضوعات والمقالات، فأدركُ سلفاً أنّ مكوثي سيكونُ قصيراً، وأكتفي بالوقوف إلى يساره، مترقّباً أدنى ملاحظة. وفي أوقاتٍ أخرى، يكونُ لمعلّمنا وقتٌ وافٍ لعدَم الاكتفاء بتفقّد العناوين، فيدعوني إلى الجلوس قبالته، ويروحُ يقلّب ويُفلفِش، مُصوّباً بقلمه أخطاءً غدرَت بي أو اعوِجاجاتٍ لم أُتقن تلافيها.

كنتُ أتهيّب ذاك اللّقاء في كلّ مرّة أقرع بابه، قلقاً ممّا ينتظرُني من ملاحظاتٍ وتوجيهات. وفي كلّ مرة، كان ينتشلُني من خوفي وهواجسي ويقوّي عزيمتي، فأخرجُ من عندهِ مغتسلاً بـ"مَيْرون" الحماسة والاحتراف.

ذلك "المَيْرونُ" خوّلني وزملاءَ أعزّاء قلائل أن نكون عناصرَ فاعلين في مطبخ "النّهار"، تصحيحاً وتنقيحاً وعنونةً للموادّ على اختلافها. كنّا ننهَلُ من مَعين عمالقةٍ في المهنة، يتزعّمُهم معلّمنا الأستاذ. كان زمنَ الورق والكبار، وأكبرُهم صاحبُ "لَن" و"الرّأس المقطوع" و"ماضي الأيّام الآتية" … وتطولُ القائمة. 

من الطّبقةِ الثّامنة في بيتنا الثّاني، إلى الطّبقة السّادسة، حيث الأرشيفُ الورقيّ لـ"ملحق" الستّينات والسّبعينات، لاكتشاف إرثِ المعلّم النثريّ والصِحافيّ عبر افتتاحيّاته التي تهطلُ عليكَ كمطرٍ عذب، تلتقطُ من حُبَيْباته لغةً ليست كاللّغة، ومفرداتٍ ليست كالمفردات، ومعانيَ ليست كالمعاني. محطةٌ موّقتة هي، ليخلُصَ بك المطاف إلى الطبقة الأرضيّة، حيثُ مكتبةُ "دار النّهار للنّشر". هناك، تستلّ من يدَيّ البائع العَليم ثلاثة مجلّداتٍ لأستاذنا، ذُيّلت أغلفتُها بـ"كلِمات، كلِمات، كلِمات"، ترويسة تلك الافتتاحيّات التي أمسَت عنواناً مشتركاً لمجموعتهِ النثريّة.

من غياهبِ ذلك الكنز، تطلّ على ما كانَتْهُ بيروت وكانَهُ لبنان بشياطينِه وقدّيسيه، بالتِماعاته وكَبْواته، بمدّه وجَزْره، قبل أن ينزلقَ إلى الأَتّون. ولعلّ أكثر الالتماعاتِ سطوعاً، أقلّه بالنّسبة إليّ، مواكبةُ معلمّنا من كثب لمسيرةِ الأخوين رحباني والسيّدة فيروز التي أفصَح عن "حبّه" لها "بإرهاب" في مقالٍ صاعق أعقب مسرحيّة "يَعيش يَعيش" شتاء العام 1970.

حلّ صيف 1998، وعادت السيّدةُ إلى بعلبكّ، تعانقُ أعمدةَ جوبيتير اليتيمة بعد طول فُراق، وتُضيء ليل النجوم بشَدْوِها. حجَجْتُ مثل الآلاف إلى حيثُ اللّقاء الذي طال انتظارُه، لكنّني عُدت خائباً. لم أصغِ إلى سوى تسجيلات أسطوانات ألفَتْها أذناي، تتصاعد من مكبّرات للصوت عملاقة، ولم أشاهد سوى فرقةٍ موسيقيّة زائفة، يدّعي أفرادها أنّهم يستخرِجون نوطاتٍ حيّة من بطون آلاتِهم.

"أيُعقل ذلك؟"، سألتُ المعلّم غاضباً، "أعلمُ أنّ العزفَ الحيّ كان من أبرز ميزات عاصي ومنصور طوالَ مسيرتِهما في المسرح الغنائيّ، فلِماذا تلطيخُ هذا التّاريخ الناصعِ اليوم، وإقحامُ السيّدة في تمثيليّة بلاي باك سخيفة؟". امتصّ ثائرتي بابتسامةِ العارف وبادرني: "لا تتّكىء على معلومةٍ خاطئة. صحيحٌ أنّ الأخوين توسّلا العزفَ الحيّ في أعمالهما الأولى، لكنّهما تقصّدا التنويعَ بعدها بين مقاطعَ مسجّلة وأخرى غير مسجّلة لأسبابٍ شتّى، فنّية وتقنيّة ولوجستيّة. عُدْ إلى الأسطوانات، وجرِّب أن تكتشفَ الأمر بنفسِك". حَفَرَت كلماتُه عميقاً في مسامعي، وما زلتُ مذّاك مواظباً على استنفارِ ذائقَتي وحواسّي في كلّ مرّة أستسلمُ لمسرحيةٍ رحبانيّة فيروزيّة، عساي أوفّقُ في اكتِناهِ الخيطِ الفاصل بين الموسيقى الحيّة وتلك المسجّلة.

الثامن عَشَر من شباط 2014. 
فترةٌ وجيزة تفصِلُنا عن الذّكرى الثّامنة لعُبور معلّمِنا أُنسي الحاج إلى الضّفةِ الأخرى. إرتحلَ عنّا قبل ثمانٍ، فكأنّها البارِحة. لكنّه أبى أن يحزَم كلّ حقائبه. فأوراقُنا ما زالت ملطّخةً ببعض أحمره، يغلّفها شوقٌ إليه أنّى لهُ أن يرحل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها