الثلاثاء 2022/12/06

آخر تحديث: 19:57 (بيروت)

منتخب البرازيل يرقص..كابويرا في الكولوسيوم

الثلاثاء 2022/12/06
منتخب البرازيل يرقص..كابويرا في الكولوسيوم
من رقصات الأهداف في مرمى كوريا الجنوبية (أ ب)
increase حجم الخط decrease
رقصَ اللاعبون البرازيليون لكل هدف من الأهداف الأربعة التي سجلوها في مرمى كوريا الجنوبية. أداء راقص فعلي ومنسّق على أرض الملعب، أخذوا فيه وقتهم.. المستقطع لا الضائع. رقّصوا أيضاً مدرّبهم "تيتي". وتلقوا الانتقادات، بأنهم قللوا من احترام الخصم، بشيء من اللامبالاة. هذا نحن، سعداء ونحتفل، هكذا نحتفي بانتصاراتنا، ولا مبرر ليتنكّب المنافس رقصنا على محمَل شخصي.

هذا منتخب يعرف كيف يتسلى فيما هو يلعب، بكل جدية، وفيما يشتغل للكأس ويشتهيها. لا بد أيضاً أن أعناقاً برازيلية كثيرة على محك ماليّ أو معنوي، ككل منتخب في المونديال وكل نادٍ في بطولة محلية. في مباراة سابقة، حظيت بعض الأهداف، من النوع الذي يخلق صورة لاعب طائر في الهواء، مقلوباً رأساً على عقب، بتعليق من نوع: هذه كرة قدم وليست عروض جمباز! ومَن يأبه؟ ليس البرازيليون بالتأكيد.


هم يتسلون فيما يكدحون ذارفين الماء والمِلح والنشوة من مساماتهم كافة. بعض ذلك ثقافة، والثقافة جزء من العرض، بيان شبه رسمي لا يُدبّج بالكلمات. اليابانيون نظفوا المدرجات وغرف اللاعبين. ثمة فرق استعرضت قواها بطول لاعبيها أو تنمّرهم البدني، أستراليا مثلاً. والبرازيليون لم يستعرضوا البطاقة البريدية لثقافتهم فحسب، بل أيضاً ثقافة النظرة إلى اللعبة البرازيلية وشعبها. الأولى غازلَت الثانية، إذ تعرف ما يغويها وما تريده وتبحث عنه. والثانية استجابت متواطئة. وهم واعون تماماً بأنهم نجوم في عَرضٍ اسمه المونديال، مشهدية spectacle للفرجة، ليست الكرة ولا الشِّباك ولا خطط اللعب فقط خُلاصة مَحاورها.

وطالما أنه عرض، فلنمضِ به إلى منتهاه، وما يكون منتهى أي عرضٍ سوى الرقص؟ رقص اللاعبين في مسرح العشب، رياضياً وحرفياً. رقص مصارعي الأُسُود لمَن كانوا يوماً جديرين بلقب gladiators، وحينما كانت السينما والمسرح والتلفزيون وألعاب الفيديو والواقع المعزز لا تزال في نسخة القرن الأول بعد ميلاد المسيح. هنا كولوسيوم. لمسرحيات الآلهة، لتنفيذ إعدامات علنية وعامة، لإعادة تمثيل معارك مجيدة، ولمصارعات المحاربين الأشاوس في ما بينهم، وسجناء وعبيد مقابل حيوانات ضارية. وبالطبع، هناك ربح ومراهنات وعشق وشهوة وأدرينالينات شتى. والمُحارب المُرفِّه عن جمهوره، طوعاً أو قسراً، يتوجب عليه، في خضم نزيفه أو نجاته، أن يُمتعه أولاً، وهذه مسألة حياة أو موت.. في الحلبة الخضراء، حياة اللاعب المتغذية على شهرته، وموته كنجم آفل -أو أسوأ- مُملّ.


يُحكى إنها أميركا اللاتينية، وكفى. شعب دمه ساخن. أدبه، شِعره، غناؤه. غليان. واقعية سحرية، في الملعب. عندما يحصل الخارق أو المؤسطَر في سياق من الطبيعي والمعتاد الملتصق بالعَيش العقلاني أو المُعقلَن. الخارق لم يتجسد في الأهداف، بل في الرقصات المتتالية. والمؤسطَر، قبل اللعبة وطريقة اللعب، هم اللاعبون – الراقصون.

المفارقة أن تعبير "الواقعية السحرية" كوصف تصنيفي لأعمال إبداعية، أتى في الأصل مصاحباً لفنون تشكيلية ظهرت في ألمانيا وإيطاليا في العشرينات من القرن الماضي. ألمانيا الخصم اللدود ومربط الثأر التاريخي، كروياً! حتى في الأدب، لاحقاً، لم يكن المصطلح حكراً على غابرييل غارسيا ماركيز وجيرانه، بل امتد من ألمانيا غونتر غراس، إلى هند/بريطانيا سلمان رشدي، ويابان هاروكي موراكامي، وتشيكيا ميلان كونديرا. لكن ماركيز رقّص المصطلح حتى طوَّعه وامتلكه، وربما أحياناً احتكره في خيالنا، هكذا لمجرد أنه يليق به.

الرقص بالنسبة لهؤلاء، كالماء والهواء. حالة انوجاد، تلقائية، فطرية. الاستعراض رياضة وطنية. كرنفال ريو دي جانيرو. هكذا هو تحديقنا فيهم، وهكذا يستمتعون بتغذية تفرّسنا، عارفين اللعبة.

"الاحترام المنقوص"... قيل دفاعاً عن الفريق الكوري الجنوبي، الآتي من شرق يقدّس الاحترام إلى حد قمع الذات، بل قمعها وتهذيبها أولاً، وقبل العدو. الفنون القتالية في أقصى مطالع الشمس، غالباً ما تدور حول التيمة هذه، بشكل أو بآخر. أما "كابويرا"، أحد أقدم فنون الدفاع عن النفس البرازيلية، فهو الذي يوصف بالفن القتالي المتنكر في زي.. رقصة. وُلدت الكابويرا في بوتقة انصهار الأفارقة المستعبَدين والبرازيليين الأصليين والتأثيرات البرتغالية، في بداية القرن السادس عشر، مُنعت لسنوات، وعادت، ولا تزال. تشتهر بمناوراتها البهلوانية المعقدة، حيث الأيدي تستند مراراً على الأرض والركلات مقلوبة. كانت المهارة الأساسية التي تُمكّن العبد الهارب من البقاء على قيد الحياة في أراضٍ مُعادية مجهولة، ترفده بما يحتاجه من جسده الأعزل لمواجهة مُطارديه من العملاء الاستعماريين المسلّحين. وبمرور الزمن، أضيفت معانٍ روحانية، وما عاد الرقص زياً تنكرياً، فهذا ما يحدث بعد انتفاء الخطر وبقاء الممارسة كذكرى من تاريخ.

وثمة سياق أصغر وأدق لرقصات اللاعبين البرازيليين في الملعب. قال تيتي: "كان ذلك من أجل ريتشارليسون. طلب مني أن أرقص، وأخبرته أنه إذا سجل هدفاً، سأفعل ذلك. وعندما تمكن من التسجيل فعلت ذلك". بكل بساطة. المرح أيضاً للمرح.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها