الأحد 2022/12/25

آخر تحديث: 09:34 (بيروت)

يواف دي كابوا..البحث عن صورة تشي غيفارا في غزة

يواف دي كابوا..البحث عن صورة تشي غيفارا في غزة
increase حجم الخط decrease
في 18 يونيو 1959، هبط تشي غيفارا مرتدي زياً عسكرياً كاملاً ومصحوباً بالعديد من الرفاق الذين أظهروا مظهرا ثوريا مهيباً بالقدر نفسه، في غزة. بالنظر إلى سمعته اليوم، ربما يتوقع المرء أن يقوم تشي البالغ من العمر آنذاك 31 عاماً، ربما  بتوجيه مقاتلي المقاومة الفلسطينية (الفدائيين) بطرق حرب العصابات، أو إخبارهم بالتفصيل عن تكتيكاته الكبرى، أو تدوين ملاحظات على معركتهم التي دامت عقداً من الزمن في المقاومة ضد إسرائيل. في الواقع، عندما علمت لأول مرة بزيارة تشي الأولى - والوحيدة - إلى غزة، كنت مشحوناً بمثل هذه الأسئلة. هل كان هذا التبادل للتكتيكات الثورية هو إرث زيارته؟ هل جاء إلى هناك عن قصد من أجل بناء علاقة طويلة الأمد مع المقاتلين الفلسطينيين؟ هل انجذب إلى غزة باعتبارها بؤرة مقاومة عالمية للاستعمار؟ ما الذي تمخض بالضبط عن هذه الزيارة ومن التقى هناك؟ كنت أشعر بالفضول لأعرف. 
سمعتُ لأول مرة عن زيارة تشي المثيرة للاهتمام منذ حوالي ثلاث سنوات. الشخص العابر الذي قابلته في الأرشيف لم يستطع أن يخبرني الكثير إلى جانب حقيقة أنه قرأ في مكان ما (لكن أين؟) أن تشي زار مخيم الشاطئ ورحب به سكانه الفلسطينيون بحرارة. لم يكن ذلك كثيراً. نتج عن البحث في الويب الصورة أعلاه التي تُظهر تشي وشخصيات مرموقة أخرى مع أحمد سالم، الحاكم المصري القوي لغزة. أضاف كاتب سيرة تشي الموثوق Jon Lee Anderson جون لي أندرسون، بعض التفاصيل الإضافية والتاريخ ولكن لا شيء آخر. لذا، بهذه البداية المتواضعة، غامرتُ بدخول الأرشيف للعثور على القصة وراء الزيارة والصورة. لقد بدأت بأرشيف الدولة الإسرائيلية. منذ نهاية حرب عام 1948 حتى عام 1956، ومرة أخرى بين عامي 1957 و1967 (عندما احتلتها إسرائيل خلال حرب الأيام الستة)، كانت غزة تحت الحكم المصري وسيطر جيشهم على كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية، بما في ذلك مقاومتهم، وتسللهم إلى إسرائيل. بدا أرشيف الدولة الإسرائيلية واعداً بسبب مراقبتها لغزة عن كثب طوال هذه الفترة وحتى فترة الاحتلال الإسرائيلي. اعتقدتُ أن الإسرائيليين لا يمكن أن يفوّتوا مثل هذه الزيارة رفيعة المستوى من قبل أحد كبار المنظرين والممارسين لحرب العصابات. لدهشتي، اتضح أنهم فعلوا ذلك. الحقيقة أن زيارة تشي إلى غزة لم تترك أي انطباع على الإطلاق في الأرشيف الإسرائيلي. وهكذا، في ظل عدم وجود دليل من الأرشيف الإسرائيلي وغياب الأرشيف المصري تماماً، إلتفتُ إلى الصحافة العربية. ما وجدته كان مفاجئاً إلى حد ما. اتضح أن تشي كان نكرة كوبياً وإنما لم يتجاهله المصريون في الغالب.

(غيفارا وناصر)

في الواقع، كما اتضح في ما بعد، كانت زيارة تشي إلى مصر- التي كانت تُعرف آنذاك باسم الجمهورية العربية المتحدة - حدثًا قصيراً، قليل الأهمية ومراقباً بإحكام من قبل السلطات المصرية التي كانت مترددة في الاعتراف بالمشاريع الثورية المنافسة مثل مشروع كوبا. بل إن رحلته إلى غزة تم التقليل من شأنها. أُبقيت الوحدة الصحافية عند الحد الأدنى، ولم يتم نشر أي صور رمزية- وعلى ما يبدو - بقيت صورة واحدة فقط. على الرغم من زيارة تشي والكوبيين للعديد من مخيمات اللاجئين، إلا أنهم بحلول نهاية اليوم، لم يتناولوا العشاء مع كبار قادة الفدائيين الثوريين الفلسطينيين، ولكن مع الوحدة البرازيلية التابعة لقوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة. في الواقع، لم يكن هناك عضو واحد من الفدائيين، ولم يكن ثمة حديث عن النظرية الثورية، أو الاستعمار الجديد، أو الإمبريالية الصهيونية، أو أي من الفئات الفرعية الأخرى للمقاومة العالمية في الستينيات. بعد أربع وعشرين ساعة من وصول تشي إلى غزة، عاد إلى القاهرة. دفنت الصحف القصة في اليوم التالي. 

بالعودة إلى القاهرة، كان الكوبيون بعيدين عن أن يكونوا محور الأحاديث في المدينة، وكان الاهتمام المصري منصباً في أماكن أخرى على الزيارة الأكثر أهمية للإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي. فبينما تلقى سيلاسي تغطية صحافية مكثفة، لم يحصل الكوبيون على أي شيء، باستثناء بعض التقارير الموجودة في الصفحات الخلفية. لم يكن الأمر بسبب تجاهل الكوبيين. على الرغم من أنه كان مشغولاً على ما يبدو بحيث لم يستقبل تشي رسمياً في المطار عند وصوله، إلا أن ناصر منحه، في اليوم التالي، وسام الجمهورية العربية المتحدة من الدرجة الأولى في حفل غريب مُقتضب. تميزت بقية الزيارة بروح أبوية، حيث قام المصريون بإلقاء محاضرات على الكوبيين عديمي الخبرة حول أساليب إحداث ثورة زراعية لصالح المساواة الاجتماعية، وقُدمت نظريات واقتراحات مختلفة حول كيفية تعامل الكوبيين مع تصنيع بلدهم. بعد ذلك، غادر الكوبيون إلى دمشق، وزاروا قبر صلاح الدين، وهو رمز معروف للمقاومة والتضحية، واستمروا في رحلتهم إلى أماكن أخرى في إفريقيا وآسيا. 
(عند ضريح صلاح الدين)
تخبرنا هذه الزيارة إلى القلب الثوري للعالم العربي بعبارات لا لبس فيها أن تشي الملتحي الذي يدخن السيجار لم يكن بعد رمزاً دوليأً للمقاومة العالمية وأن هذا العقد الثوري الأيقوني، الستينيات، لم يكن بدأ حقًاً بعد. في الواقع، لا يبدو أن الهدف من زيارته هو إطلاق حركة ثورية دولية، ولكن بدلاً من ذلك، بدأ جولة لمدة ثلاثة أشهر في العالم الثالث حتى يتمكن تشي من تقديم نفسه إلى النخب التقدمية في مختلف البلدان، وربما، بالمناسبة، إقامة علاقات تجارية والأمل ببيع بعض السكر. نعم، هذا صحيح: السكر له الأسبقية على حرب العصابات. لكن مع هذه الجولة، بدأت كوبا أيضاً البحث عن دورها الثوري في الشؤون العالمية. بعد ثلاث سنوات، ظهر تشي الأيقونة العالمثالثية المعروفة عالمياً للرجل الجديد، المستحق لتغطية الصفحة الأولى حتى في مصر. في الواقع، في لقاءاته المستقبلية مع ناصر، انقلبت الموائد وقدم ناصر نفسه على أنه مساعد تشي المُصغي والمتواضع. عند هذه النقطة، بالطبع، كانت ثقافة المقاومة العالمية في الستينيات جزءاً لا يتجزأ من السياسة العربية اليومية. 


(غيفارا غزة)
أما بالنسبة للفلسطينيين، فلم يكن لفدائيي الخمسينيات علاقة تذكر بثقافة حرب العصابات التي يرتبطون بها الآن على نحو عفا عليه الزمن. لكن هذا أيضاً كان على وشك التغيير، حيث أقام تشي خلال الستينيات علاقة وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية وتأثر جيل جديد من المقاتلين الفلسطينيين بشدة بمثاله وكذلك بثقافة المقاومة العالمية. جاءت لحظة تحركهم بعد عام 1967 عندما احتلت إسرائيل قطاع غزة واستقرت فيه. رداً على ذلك، شن مقاتلو اليسار الفلسطيني حملة متواصلة وصلت إلى ذروتها تحت قيادة محمد الأسود، المعروف في ذلك الوقت باسم "جيفارا غزة". 

حمل الأسود بفخر إرث غيفارا حتى نهايته المأسوية، التي جاءت خلال معركة مع الجنود الإسرائيليين في عام 1973. وبعد سنوات قليلة، وبسبب الحملة الإسرائيلية المستمرة، كانت حركة المقاومة الفلسطينية اليسارية في غزة محطمة، وبعد عقد من الزمان، لم يكن لدى اليسار الثوري الكثير ليقدّمه. وبالفعل، بحلول ذلك الوقت، كانت المعارضة العسكرية لإسرائيل منظمة على أسس إسلامية مع قيام منظمات مثل حماس والجهاد الإسلامي بدور مركزي. اليوم، بعد انتفاضتين شعبيتين وبعد سلسلة من المناوشات الدموية الأخرى، كل ما تبقى من إرث تشي في غزة هو عدد قليل من الفلسطينيين في منتصف العمر ممن حملوا، في الستينيات، اسم غيفارا من قبل آبائهم المثاليين. هكذا يذهب تاريخ غيفارا في غزة، وهو تشابك بدأ بشكل متواضع بزيارة كوبي مجهول يدخن السيجار ولكنه انتهى، بشكل مشهور، بصنع أيقونة مقاومة للفلسطينيين، شخص سعى إلى تحرير بلاده وكذلك العالم.

مصدر المقال هنا NOT EVEN PAST
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها