الأحد 2022/11/06

آخر تحديث: 10:16 (بيروت)

الأدب والكارثة: السرد بألسنة الجثث

الأحد 2022/11/06
الأدب والكارثة: السرد بألسنة الجثث
مشهد من مرفأ بيروت بعد الإنفجار: لوحة للرسام شوقي شمعون
increase حجم الخط decrease
في الثلاثين من الشهر الفائت، وبدعوة من البيت الدولي للكتّاب، ثمة حوار كان يدور في المركز الثقافي الفرنسي(بيروت) تحت عنوان "الأدب والكارثة"، بإدارة الروائي شريف مجدلاني بين مجموعة من الكتّاب بينهم كاتب هذه السطور.

 

قد يكون تجنّياً على المتلقي بالإجمال، أن يكون الراوي جثة وهو ما اقترحته شخصياً في ذلك الحوار، الذي ضمّ كتّاباً من اليابان وهاييتي واليونان ولبنان. فالإنتماء إلى العالم اليوم هو نمط من المازوشية، ذلك أن الكارثة ترسم مشهد العالم كلّه وعلى مستويات شتّى. بالتالي، فمَنْ أجدر من الموتى بالحكي عن هذا العالم!

لا شيء يشفع بالإنسان إلا موته السريع وقد تحوّل العيش إلى عبء على الروح، أما خدمة الآلهة واللجوء إليها فكفّ عن أن يكون سلاماً... يقول يوسف زيدان في رائعته الروائية "عزازيل": "إن الآلهة لا تحتاج اليوم من يخدمها، بل من يبكي عليها". فلا شيء سوى الكارثة التي تملك من الرصيد، ما ينمّ عن أبد ديمومتها وصولاً إلى الفناء، فناء البشر عن بكرة أبيهم.

من النافل أن الكارثة لا تقدّم نفسها باستواء كما ينبئنا التاريخ، إذ ثمة بُعدٌ طوبوغرافيٌ لكيفية انتشارها في العالم فنراها تتكاثف فوق هذه البقعة من بقاع الأرض وترقّ في بقعة أخرى، وهكذا دواليك كل الوقت لنكون من ثم إزاء إنسان لا تُستجمع له ذاتٌ إلا عبر رموز الكارثة. وليست كل طقوس الكتابة في هذا السياق إلا بمثابة إداءات متعددة اللغات والجنسيات والثيمات للكارثة. فالكارثة هي من تستجمع النص فتشي ببدئه وتضع له نقطة النهاية، ولا بأس عندئذ بأن تكون الرواية إثماً كما يقول إبراهيم الكوني، بل أن تكون رجسا من عمل الشيطان كما الروائي الليبي الرائع... فالشيطان أيضاً قد يكون مثالاً يحتذى بغية التدليل على الكارثة.

كل ما يتمتع بتاريخ طويل لا بدّ أن يُروى، وهل ثمة من تاريخ أطول من تاريخ الكارثة!! وما النوستالجيا في هذا السياق إلا عبارة عن ذاكرة مبتورة وما النصوص التي تلتزم الصمت حيال هذا التاريخ الطويل وصولاً إلى تجسيداته الحاضرة سوى أنماط هشة من اليوتوبيا المؤجلة. إن التفاؤل حيال الحاضر يقع في باب السذاجة، أما التفاؤل حيال المستقبل فيقع في باب الخبل... لماذا نكتب إذن؟ لست أدري.

كان الروائي الأميركي جون شتاينبك يقول إن الكتابة في بعض وجوهها هي بمثابة فوز مرتبك بالصمت، انعتاق من ضغط الكلمات وصولاً لقوله: "أنا أكتب لأني أكسل من أن أقوم بأي عمل آخر..."، وبصراحة القول، الأمر عينه ينطبق علي.

إزاء الكارثة، النص في علاقته مع العالم هو أقرب إلى الشبح المشوب بالحيرة... فالكارثة ليست تحفّظاً خجولا في هذا المحل، وليست هسهسة أو وشوشة أو ربتاً فوق الكتف، إنها بالأحرى ذلك الإنفجار الذي يناثر الوجود شظايا، الإنفجار الذي يستحث الشبح، الذي يستحث النص على جمع تلك الشظايا... ولكن بلا طائل.

في روايته "انصتوا إلى هزائمنا" يقول الفرنسي لوران غودي إن العالم "هو مجزرة لا تملك حتى فضيلة أن تكون حاسمة". نعم، حتى الحسم هو رهن إشارة الكارثة والنصوص في هذا المتن لا تتجاوز أن تكون قعقعة أقفال صدئة بانتظار الصمت النهائي حيث الفجيعة تختلس النظر إلى الإنسان بخفة من لا يبالي.

ثمة من يرى في نص الفجيعة تمهيداً لمستقبل إنساني زاهر. بالنسبة إليّ، النقاد الذين يرفلون في هذا الثوب هم، وبالتعبير الكانطي، أقرب إلى "أشكال منقبضة من الفضيلة".

سئل الروائي الألماني غونتر غراس في العام 1991 إذا ما كان للإنسان مستقبل زاهر، فردّ بالقول، إذا ما كان وجود الإنسان ضرورياً في هذا العالم فسوف يكون له مستقبل...

تعقيباً على غونتر غراس: هل وجود الإنسان ضرورياً من أجل سلامة الكوكب؟ فليبثني القارىء الجواب الذي يلائم تطلعاته...

كفّتْ القصيدة عن أن تكون نمطاً للتعجّب كما أراد لها بول فاليري أن تكون، وكفّ العالم عن أن يكون قصيدة الله كما أراد الفلورنسي الزاهد لاندينو للعالم أن يكون، والطفل كفّ عن أن يكون شاعراً كما خمّن الأمر جان كوكتو يوماً... فالإهانة تفتح أبواب الجحيم كما يقول دوستويفسكي، والجنس البشري بأسره مُهان.

فالكارثة هي البداهة الأولى وتأويل نص الكارثة لا ينتهي بالمؤوّل إلا إلى ضروب الشك. ثمة اختفاء للمعنى يطفو فوق السطح بامتياز، يتخلّل مسارب هذا السطح، يشكّله، يهندسه ويعيد ترتيبه بما يتآلف مع نص..نص ماذا؟..المصارف؟ الشركات العابرة للقارات؟ اقتصاد البيت (الإيكوس) وليس اقتصاد العالم (الآغورا)؟ الأيديولوجيات الدينية التي ترتعب من إقتران الشمس بشَعْر النساء؟ كل هذه الإحتمالات واردة... أما كتابة الرواية فربما هي آلة ضبط لوجود ما... وجود ملتبس، متأفف، لا مبال ومنتظر... أقول هذه الكلمة الأخيرة وببالي قول الشاعر: "يشيخ الخلود في ليلة انتظار".

فلنكتب إذن.

إن العالم المتمرئي دوماً عبر المرايا الشاسعة للكارثة تصير كلمات نصوصه محض فعل مؤازرة للصمت، للموت، للرحيل النهائي. كفّ الأدب عن ابتكار معجمه الخاص كما كان يرى إلى الأمر الناقد الفرنسي رولان بارت، وقد أضحى معجم الكارثة هو الموئل اللامتناهي لكتابة الرواية والقصيدة والذود عن الصمت.

كان مالارميه يقول، على الكاتب أن يترك المبادرة للكلمات أما الكارثة فتقول للجميع: الأمر لي... محلياً، هي أشبه بجنرال ساديٍ هرمٍ كالذي ودّعناه منذ أيام. أما تولستوي فكان يأخذ على المسيح قوله إن مملكته ليست في هذا العالم، ليبتكر عبر نصوصه الكثيرة مسيحاً آخر لأهل الأرض، لكن الأرض، حتى الأرض التي احتضنتْ تولستوي يماهي قادتها اليوم كل العالم مع الكارثة.

نعم، ثمة تجن في دعوة القارىء لزرع عيون الجثة بوجهه أثناء قراءته الأدب، لكن العالم لا يستجيب إلا لتلك العيون الباهرة وقد فاض لسان العالم بكلمات الفجيعة، كلمات الكارثة وكلمات عراء الإنسان.

ينهي فتغنشتاين كتابه Tractatusبالعبارة التالية: Whereof one cannot speak, thereof one must be silent. (فلنركن للصمت عندما تنتفي الحاجة للحكي).

فلنركن إذن إلى الصمت أو فلنركن إلى تلك الكلمات التي تجيد التحديق في عين الكارثة. لا ضير في القول اني في قصة "أنا وجدتي ووردة بيضاء"، ركنتُ إلى كلمات الموتى، إلى كلمات تلك الجثث المقطعة الأوصال في بيروت 4 آب 2020. ركنتُ في تلك القصة القصيرة إلى همس النترات، هسيسها، كلامها ثم دويّها وصولاً إلى صمتنا النهائي... صمتنا الذي يدوّن موتنا في كتاب لبنان الكارثة. 

 

 

 

    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها