السبت 2022/11/05

آخر تحديث: 14:54 (بيروت)

"بيروت سورسين" لسبيل غصوب...هل تكفي القضية اللبنانية لبلوغ "غونكور"؟

السبت 2022/11/05
"بيروت سورسين" لسبيل غصوب...هل تكفي القضية اللبنانية لبلوغ "غونكور"؟
"وُلِدتُ في بيروت، في أحد شوارع باريس"
increase حجم الخط decrease
"وُلِدْتُ في بيروت، في أحد شوارع باريس"، هي العبارة التي تلخّص كلّ ما أراد الكاتب اللبنانيّ سبيل غصوب قوله في روايته "بيروت-سور- سين" (Beyrouth-sur-Seine) الصادرة عن دار ستوك (stock)، والتي وصلت إلى اللائحة الطويلة لجائزة غونكور الفرنسيّة، ولم توفّق في بلوغ اللائحة القصيرة. فهو على مدار كتابه أراد أن يصوّر هذا الصراع الداخليّ في نفوس اللبنانيّين الذي هجروا لبنان إلى فرنسا قسراً أو طوعاً إبّان سنوات الحروب اللبنانيّة، وتحوّلت هجرتهم المؤقَّتة هذه إقامةً دائمة، وذلك عبر استنطاق والديه حول ظروف انتقالهم إلى فرنسا وعن حياتهم في لبنان قبل الحرب وفي بداياتها، وهو ما قاده بالتالي إلى القيام ببعض التحقيقات والاستقصاءات ونبش أوراق العائلة القديمة.

خصّص الكاتب القسم الأول من أقسام الرواية الثلاثة، للحديث عن أبيه وأمّه بنوع خاص، لكن أيضاً عن سائر أفراد العائلة من الجهتَيْن، وبشكلٍ أساسيّ عن خالَيْه الياس وحبيب الشيوعيّين، وعن عمه أمين المنضوي زمن الحرب في مليشيا مسيحيّة (كتائبيّ على الأرجح كما يُفهم من سياق الرواية)، ثمّ عن أخته البكر يالا وعن عمّته سلمى وفي النهاية، في الفصول الأخيرة، عن حبيبته ألما. وانطلاقاً من حواره مع والديه، الذي لا يخلو من مواقف ومنكافات طريفة، ينساق غصوب إلى نبش واستنباش الماضي العائلي بكلّ تفاصيله، وعلى الأخصّ في نواحيه السياسيّة، فاستعرض انتماءاتهم وقناعاتهم وخصوصاً نشاطاتهم إبّان الحرب. من الأب يساري النزعة كما يبدو، لكن "المزاجي والمتقلّب" إلى حدٍ ما، أو الذي كانت عنده جرأة القيام بنقد ذاتي والاعتراف بالحقائق كما رآها. إلى الوالدة، نموذج المرأة اللبنانيّة، التي تجمع بين الاهتمام بحياة العائلة، الضيقة والواسعة، وبين مشاركة الزوج العمل والآراء السياسيّة والاجتماعية، وإن تباينت مع آرائه أحياناً.

ومن الوالدَيْن إلى الخالَيْن، الياس الشيوعيّ الملتزم بالقضيّة الفلسطينيّة، في لبنان وفي فرنسا حيث هرب لاجئاً، والذي يجرّ معه شقيقه حبيب إلى قناعاته ونشاطاته وإن اختلفت مواقفهما لاحقاً، إلى عمّته سلمى المتديِّنة التي تنشر رعايتها على أفراد العائلة والتي تنتهي ملتزمة الحياة الدينيّة في أحد الأديرة، إلى العمّ أمين الكتائبيّ المشارك في الأعمال المليشويّة في جهة، كما كان الخال الياس ناشطاً ومشاركاً في الجهة المقابلة.

في القسم الثاني، الذي يبدأ بالكلام على ثورة 17 تشرين في لبنان، يتتبّع الكاتب الأحداث مستعيداً الوقائع من زمن الحرب الداخليّة والحروب اللبنانيّة الإسرائيليّة، وتمدّد آثارها وانعكاساتها إلى فرنسا، وما رافقها من هجمات وتعدّيات وتفجيرات في الشارع الباريسيّ، وفي كلّ مرة، ينجو منها الوالدان أو أحدهما في اللحظة الأخيرة، كأن شؤم الحرب يلاحقهما هناك أيضاً. وبالطبع يقوده ذلك كله إلى استعراض ردود الأفعال الفرنسيّة، كما ردود أفعال الأهل، ثمّ هو على الأخصّ الذي يجد نفسه متعاطفاً مع مجلة "شارلي إيبدو" بالرغم من عدم اهتمامه كثيراً بالسياسة الفرنسيّة.

القسم الثالث هو قسم المآلات، يستعرض فيه غصوب مصائر شخصيّاته وما آلت إليه أحوالهم، من الانصراف إلى مشاريع حياتيّة جديدة إلى الوفيّات، موت الوالد، والخال الياس والجدّة والعمّ أمين وغيرهم. وينتهي هذا الفصل، والرواية معه، باستعراض سبيل غصوب، بعد حوار معبِّر مع صديقته ألما، حالة التجاذبات الداخليّة التي تنتابه، كما سائر اللبنانيّين المقيمين والمولودين في فرنسا، حول مسألة هذا الانتماء المزدوج إلى بلدين متقاربَيْن متباعدَيْن، بناسهما وطرق الحياة فيهما.

هذه الأقسام الثلاثة، والتي حدّدها الكاتب وفق محطّات معيّنة، إذ بدأ بقرار الكتابة عن الوالدين واستنطاقهما للقسم الأوّل، وثورة 17 تشرين في لبنان للقسم الثاني، وموت الوالد للقسم الثالث، إلا أنها بقيت متداخلة في ما بينها من حيث رواية الأحداث ونقل الوقائع، ومن حيث زمن وقوعها. فالكاتب على مدار الرواية اعتمد طريقة تناوبيّة (va et vient) في سرد الأحداث، متنقّلاً بين حاضر ماثل وماض قريب أو بعيد، مستعيداً أحداثاً محدّدة ومعلّقاً عليها، ليضيء على الشخصيات ويغنيها في مشاعرها وتفاعلاتها. كما لا تخلو الرواية من استباقات، إذ يروي في بداية الرواية وقائع ستحدث، وربّما عاد إليها لاحقاً (لباسه في مأتم عمّه، خصوصاً أنه كان من دون جوارب). إلا أنّ التداخل بين الأحداث والتواريخ في الفصول لم يقلّل من أهمّيتها، بل أغنى عنصر التشويق في حكاية غلب عليها الطابع السياسيّ والأسلوب التقريريّ والوصفيّ العاديّ المألوف في لغة الصحافة. إذ إن الرواية بدت ذات وجهَيْن أو موضوعيْن. الأول هو تاريخ عائلة وسيرتها في حقبة معيَّنة، والثاني هو ظروف السياسة والحروب التي أثّرت في مجرى حياتها ووجّهتها في مسارات مختلفة.

ولأنّ هذا الطابع التقريريّ طغى على الرواية عموماً، وظّف الكاتب الحسّ الفكاهي واعتمد الإضحاك، كما يصرّح هو نفسه، ساعياً بذلك ربّما إلى التخفيف من ثقل الجوّ "المأسوي". وهو وفّق في إضفاء هذا الجو منذ بداية الرواية، عبر وصف مزاجيّة الوالد، واستخفافه، وتصرّفاته، وتعليقات الأمّ ومواقفها من الوالد، وفي إحياء تلك المناكفات البريئة التي تقع في الأسر اللبنانيّة، ويغذّيها الأولاد لاستخراج ما في نَفسَي الوالدين من آراء أو من "خفّة دم" تزيد جوّ الألفة بين أفراد العائلة. ومن أجواء الإضحاك تلك الواقعة التي رواها عن والده عندما علقت أمّه رهينة مع زملائها في عملية اعتداء على مركز عملها في فرنسا، وهرع الوالد مع المسرعين لاستطلاع الوضع، وعندما قابل الشرطيّ مسؤول العمليّات لم يجد ما يقوله له في ذلك الوضع الحرج سوى: "سيّدي، زوجتي في الداخل، كم يجب أن أدفع لك لتبقيها رهينة؟". فيما علم لاحقاً أن الوالدة كانت تبكي وتصرخ في الداخل "لا أريد أن أموت هنا، أريد أن أموت في لبنان، أريد أن أموت تحت الشمس". كما كانت تبكي كالأطفال وتكرّر بمناسبة انفجار آخر: "بدّي ماما وبابا، بدّي ماما وبابا، بدّي ماما وبابا".

وفي ظلّ هذه الظروف كانت تُطرح دوماً مسألة طرد المغاربة من فرنسا (وطبعاً المقصود العرب أو المسلمين من كلّ الدول العربيّة)، كلّ الخشية كانت أن يُضطَر الأهل، في الظروف السياسيّة والأمنيّة المتصاعدة، إلى الخروج من فرنسا مطرودين كما طردتهم الحرب من لبنان، وذلك بعدما ثبّتتهم الظروف فيها، من دون أن يتآلفوا كلّياً، مع الحياة الفرنسيّة، أو ينخرطوا فيها. فقد ظلّت لهم حياتهم الخاصة وعلاقاتهم ومواقفهم وآراؤهم، وظلّ الحنين يشدّهم إلى الوطن، وها هي الأم تجعل من بيتها "بيروتاً" مصغّرة على السين، يتلاقى فيها كل زائر أو عابر في الأراضي الفرنسيّة. دارتها هناك أصبحت بيروت في أحد أحياء باريس حيث وُلِد الكاتب.

الرواية إذن أقرب إلى عرض تاريخيّ لسيرة عائلة (عرض صور من ألبومات العائلة مثلاً)، هي نموذج ربّما عن سائر العائلات اللبنانيّة، واستعادة تاريخيّة سردية تقريريّة لتركيبة لبنانية منذ بدايات القرن العشرين وصولاً إلى الأحداث التي أدّت إلى الحروب اللبنانيّة، ثم رواية ما تخّلل تلك الحروب من أهوال وفظائع غيّرت مجرى حياة الكثير من الناس. وهذا الجو السرديّ التقريريّ الطاغي هو الذي صرف الكاتب ربّما عن التعمّق في وصف الشخصيات وتفاعلاتها الداخليّة. فعلى أهمّية ما رواه، لعله ظلّ على السطح، ناقلاً تفاعلات الشخصيّات الظاهرية، من دون الغوص عميقاً فيها، وربّما أراد أن يترك للقارئ أن يشخّص عبر هذه المظاهر الحالات النفسيّة للشخصيات الواقعيّة-الروائيّة التي حكى سيرتها.

وذاك ما أدّى إلى جعل الرواية، من حيث الحبكة والخطّ الروائيّ "منفلشة"، لا تطوّر دراميّاً تصاعديّاً فيها، وإنما لوحات أو لمحات أو محطّات، جمعها الكاتب من تحقيقاته، ليعالج قضية شعب ما زال يعاني ما عاشه حتى يومنا هذا. فلا يخفى أنّ الكاتب أقام العلاقة بشكلٍ واضح بين الماضي وبين الواقع الحالي.

ويأتي الأسلوب ليصادق على ذلك، فهو بسيط، مكتوب بلغة فرانكو-لبنانيّة واضحة (وهو ما نميّزه عند غالبية اللبنانيّين الذين يكتبون باللغة الفرنسيّة)، تعمّد فيه الكاتب نقل بعض العبارات كما تقال باللبنانيّة (كيف صحتك؟ comment va ta santé? أو بعيد عن العين بعيد عن القلب Loin des yeux loin des coeurs وغيرهما). كما تغلب على هذا الأسلوب الناحية التقريريّة على حساب البناء الروائيّ المتين والممتع. وليس أدلّ على ذلك من هذا التعداد الحسابيّ في غير مكان من الرواية (الأحداث التي أعقبت اجتياح إسرائيل لبنان في العام 1982، أو تعداد أسماء الشخصيات السياسيّة والأدبيّة التي اغتيلت في لبنان بعد انتفاضة 14 آذار)، أو من استعادة حيوات وسيَر شخصيات وعائلات وأحزاب بشكل تأريخي وبنفسٍ صحافيّ. وهنا لا بدّ أن نتساءل مجدّداً عن المعايير التي تعتمدها لجان الجوائز في اختيار الروايات التي تحتلّ المراتب المتقدِّمة في لوائحها. فقد بتنا نلاحظ، مع غونكور وغيرها، أنّ الروايات غالباً تُقيَّم على أساس الموضوع والقضيّة التي تطرحها، وأحياناً على اسم الكاتب وموقعه، أكثر منها على أساس الشروط الروائيّة (البُنية والحبكة وأسلوب السرد واللعبة الفنّية...) التي تجعل منها رواية مقروءة.

هذا لا يمنع أنّ الرواية غنيّة باللمحات الإنسانيّة والعاطفيّة، خصوصاً في طرحها مسألة الانتماء، كما يبدو في الحوار مع حبيبته في أواخر الرواية. فالسؤال الدائم هو: "أين سنعيش؟ إلى أين ننتمي؟". وهذا هو السؤال ربّما الذي كان يؤرّق والديه ويعذّبهما والذي قامت عليه الرواية بشكلٍ أساسيّ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها