وعن تلك المرحلة، يروي فوزي يمين الكثير. عن اهتماماته الأولى بشراء المجلات الرياضية من مكتبة مجاورة، ونزع صور اللاعبين المشاهير منها وتعليقها في كلّ مكانٍ من غرفته، حتى لكأنّ هذه الصور أصبحت تضاهي صور القدّيسين التي تعلّقها أمه. تحدّث عن أمّه ورعايتها له ودعمها إياه في هوايته واحترافه. ثمّ تحدّث عن الربح والخسارة مقيّماً ومبرّراً، ثم عن التجوّل في باص الفريق الذي ينقلهم للعب من منطقة إلى أخرى في لبنان، فتعرّف على لبنان ومناطقه من شبّاك البوسطة. عن الفوز ببطولة لبنان "المجزوءة" أيام الانقسامات في لبنان، وعن متابعة الجمهور لهم حتى في عزّ أجواء الحرب، وحالة الجنون العارم التي انتابت الناس عند الفوز بهذه البطولة... وقد أضاء في كلمته، كما في الكتاب، على هذا الهوس الجماهيري، هذا اللاوعي الذي يصيب الجمهور، وتلك النشوة العارمة، الأشبه بالنشوة الجنسيّة، التي يحسّها اللاعبون أو الجمهور نفسه عند تسجيل الهدف، مستشهداً بوقائع من الشرق والغرب...
لا شكّ أنّ بإمكان أيّ لاعب كرة قدم، أو غيرها من الرياضات، أن يروي من تلك الوقائع بقدر ما رواه يمّين، وهذا ما وعاه فوزي، فتعمّد الابتعاد عن هذا النوع من السّرد الجاف لوقائع شائعة ومعروفة، وعرف كيف يحيد عنه في اتّجاهات أخرى أكسبت نصّه حيويّة وإنسانيّة من حيث المواضيع التي تطرّق إليها، ومِنْ حيث الجماليّة الإبداعية، وهو الشاعر، من حيث الأسلوب وطريقة التعبير.
ربط يمّين بين الموضوع الأساس (لعبة كرة القدم واحترافها نوعاً ما على مدى خمسة عشر عاماً) وبين حياته الشخصيّة في بيئته الضيّقة والأرحب. من دور أمّه في دعمه ومساعدته، إلى التفاصيل الصغيرة في الحالات العائليّة. تعليقات والده وشخيره وهو نائم في المنزل الصغير، إلى مقتطفات من سيرة العائلة، وعلى الأخص مقتل عمّه فوزي الذي سمّي بإسمه، ثمّ إلى محاولة اغتيال خاله بلُغم في سيارته نجا منه بأعجوبة، فوصف بدقة مجريات الحادث وما اعتراه بعده من غضب أراد تفجيره في الملعب وليس في مكانٍ آخر. وينهي قصّته بذِكر القرار الذي اتّخذه بالمشاركة في المباراة المقرّرة في ذلك اليوم: "اليوم سألعب كما لم ألعب من قبل (...) أنا الآمر الناهي. أنا سيّد الملعب..." ويُكمِل بمقطع إنساني إبداعي مؤثّر ولافت هو أقرب إلى شعره المنثور...
وبالطبع كانت لفوزي عودة، غير مرّة، إلى الحرب اللبنانيّة وتأثيراتها في مجريات اللعبة عموماً وفي الملاعب، من الانقسامات إلى خطر الانتقالات من منطقة إلى أخرى إلى سقوط القذائف أو اشتعال المعارك أثناء سير المباريات...
ثمّ أفرد الكثير من الفصول والكلام للتحدّث عن الحالات النفسيّة التي تعتري اللاعبين، من التمارين إلى المباريات وما بعدها، وعلاقتهم بالجماهير وتأثيرها فيهم. فكان لا بدّ أن يروي بطريقة خاطفة ومؤثّرة، انتحار أحد لاعبي الفريق المميّزين بعد هجرته إلى أستراليا، ثمّ وفاة لاعب واعدٍ آخر في حادث سيّارة، ما شكّل، ليس خسارة للفريق فحسب، وإنما مأساة أرخت بثقلها على أعضاء الفريق كما على سائر أهل البلدة. ومنها، ينتقل إلى حالات مماثلة وقعت في العالم، مع لاعبين مشاهير أصيبوا بالإحباط أو اليأس أو التوحّد، وانتهى بهم الأمر إلى حالات مرضيّة أدّت بهم إلى الانتحار. ونلفت هنا بالمناسبة إلى الأبحاث والاستقصاءات التي أجراها عن اللاعبين العالميّين وعن نظرة مشاهير العالم إلى لعبة كرة القدم الأكثر شعبية بين الرياضات، وإلى علاقة الجمهور بفريقه، وذلك ما ساهم بدوره في إبعاد النصّ عن السّرد الجاف لأخبار اللعبة وتقنياتها.
إلى ذلك بدا من الواضح عند يمّين أنّه تقصّد المزاوجة والربط بين طريقة اللعب والشّعر. ففي اللعب المتقَن والماهر، لمسات ساحرة، فيها التناسق وفيها الإيقاع، ما يقرّبها من فنّ الشعر من حيث التأثير الجماليّ، ومن حيث بناء الشخصية (الشعريّة أو الكرويّة): "لطريقة لعبي شخصيّة، كما لصوت الشاعر شخصيّة".. "كتاباتي إفصاح خفيض. أُرهِق الكرة وأنا أركلها. وأرهِق الصفحة وأنا أكتبها"، وأوّل ما يجده مُشتَركاً بين الاثنين هو "الإيقاع"، و"للكتابة رائحة اللعبة، بينهما تواطؤ لامتناهٍ جميل".
هذه الشخصيّة الشاعريّة عند فوزي يمّين، بدت جليّة في تنويعه أساليبه، إذ تنقّل ما بين الأسلوب السرديّ التقريريّ والتحليليّ والوصفيّ والتعبيريّ الإبداعيّ، وهو ما أبعده من الرتابة وأكسبه حيويّة زادت منها نصوصه القصيرة المقتَضبة التي لا تُسهِب في التفاصيل والإدّعاءات، فجاءت نصوصه هذه رشيقة برشاقة جَريه ولعبه على أرض الملعب، زاخرة باللمحات الشعرية المستوحاة من ملاعب الكرة كما من ملاعب الحياة. لم تكن لعبة كرة القدم التي روى عنها فوزي يمين، سوى بؤرة مضيئة شعّت وتشعّبت على أخبار رواها، ومجتمع غَرَف كثيراً من ألوانه المحلّية، وأماكن عزيزة على النفوس لم يكتفِ بوصفها، بل صوّر بدقّة علاقته وعلاقة الناس بها.
استراحة بين شوطَين لفوزي يمّين أكثر من تقرير رياضيّ ومن حكاية إنجازات. كتاب يُقرأ سيرة حياة مرويّة بكلّ تلاوينها، وقصيدةً مطوّلة بكلّ مشاعرها...
_________________
(**) بدعوة من اللقاء الثقافي في زغرتا أُقيم حفل توقيع كتاب الأديب والشاعر فوزي يمّين "استراحة بين شوطين" الصادر عن دار المتوسّط، وفيه يستعيد فوزي مرحلة محدّدة من حياته كلاعب كرة قدم في الملاعب اللبنانيّة والدّوليّة، انطلاقاً من الساحة الملاصقة لبيتهم في زغرتا، وانتقالاً إلى نادي السلام زغرتا، ثمّ إلى منتخب لبنان، وفي مرحلة متأخّرة إلى نادي الحكمة بيروت.
وقد تخلّل حفلة التوقيع، عرض فيلم قصير مستوحًى من أجواء كرة القدم للمخرج اللبنانيّ الطرابلسيّ غسّان الخوجه، الذي كان بدوره لاعباً في نادي الرياضة والأدب، قبل أن يكمل دراسته في الإخراج والتصوير ويتحوّل إلى التعليم الجامعي.
حمل الفيلم عنوان "شيطان عمره شهر"، وهو عنوان فصل استعاره المخرج من كتاب سابق لفوزي (في انتظار الانفجار الآتي)، والفيلم كناية عن مقابلة مع فوزي شخصيّاً على خلفيّة المشاهد والنشاطات والمواكب التي ترافق على مدى شهر تنظيم بطولة كأس العالم كل أربع سنوات في شبه مهرجان محلّيّ...
وكانت كلمة للمخرج الخوجه حول فكرة الفيلم التي تلاقت مع فكرة كتاب فوزي وأراد تنفيذها عند قراءته. وقد أراد به، ليس إبراز جمالية اللعبة بحدّ ذاتها، بقدر ما أراد تسليط الضوء على هذا الإقبال الجماهيريّ الكبير على متابعتها، وعلى أجواء الحماس الطافح الذي يتحوّل عندنا تطرّفاً بكلّ معنى الكلمة، وتعصّباً حتّى للمحلّة في المدن، أو لمدن وبلدات الوسط والأطراف. والأدهى هو التعصّب الدينيّ والمذهبيّ الذي أرخى بظلّه الثقيل على أجواء اللعبة وعطّلها في الكثير من الأحيان، وذلك على حساب الروح الوطنيّة التي يفتقدها عموماً الجمهور اللبناني، إذ لا نرى عنده دوماً هذا الحماس لألوان وطنه كما نشاهد في مدرَّجات الدول الأخرى. وفي رأي الخوجه أنّ مردّ ذلك هو حاجة الشعب اللبناني إلى بطلٍ يحقّق طموحاته، بطلٍ لا يجدُه فيستعيض منه بالانتماء إلى فريق أو طرف أجنبيّ عموماً يحقّق له الفوز، ويلبّي شغفه الزائد بالربح مقابل خسائره المتتالية على الصعيد الوطني. يختار فريقاً من الأقوياء ويلتزم به ويدافع عنه ويبرّر خساراته ويتمتّع بلعبه الفنّي في سرّائه وضرّائه.
ثمّ قدّم الكتاب، الشاعر والكاتب أنطونيو معوّض (بو علي)، وهو بدوره زميل فوزي يمّين في نادي السلام. قادا معاً، على مدى سنوات، خطّ وسط الفريق، وكانت لهما سوية، كما مع سائر رفاق ذلك الفوج، لمسات ساحرة وإنجازات، أدخلتهما إلى قلوب الناس في زغرتا، وأشاعت اسميهما على صعيد الوطن. وقد ألقى معوّض كلمة مؤثّرة، حول علاقته بفوزي وبكرة القدم وفريق السلام زغرتا، جمعت بين التقرير واللمحات الوجدانيّة الشعرية، "وُلِدنا وفي فمنا ملعقةٌ من شعر وتحت قدمنا كرةٌ من نور". ولأنّ المرحلة التي يتناولها الكتاب تنحصر تماماً بين سنوات الحرب اللبنانيّة (1975-1990) كان لا بدّ له أيضاً من التذكير بخرق أجواء الحرب واقتحام الملاعب في فترات استراحات المحاربين أو حتى وسط مناوشاتهم: "وإن لم تسترِح الحرب بين شوطين منذ أن أبصرنا النور، إلّا أننا كنّا نمارس لعبتنا المفضّلة بين رصاصتَيْن وقذيفتين وألف ألف حاجز، لقد فركنا أنفها المعقوف ومَعَسْنا رقبتها الأطول من عنق الزرافة فلبطنا الطابة في زواريب ضيعتنا فوق ترابٍ، وفوق زِفت مجبول بتراب قبل أن تدغدغ أقدامنا لاحقاً طراوة العشب الأخضر، وفي كلّ المطارح".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها