الثلاثاء 2022/11/15

آخر تحديث: 18:24 (بيروت)

مُتَع أخرى يأتي بها المونديال

الثلاثاء 2022/11/15
مُتَع أخرى يأتي بها المونديال
قطر 2022 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
للمرة الأولى بعد جائحة كورونا، يجتمع العالَم على شيء. بعد المرض والموت، وطوفان المستشفيات وحمّى اللقاح، وعزلات الحَجْر قاتل الروح من أجل خلاص الجسد... المونديال فرصة تلاق وافتراقات، اللعبة توحِّد والهويات تتوازع وتتنازع شغفاً. كرة القدم تلهب أفئدة وتلفزيونات، مقاهي وملاعب، بمليارات البشر. البشر بلغ تعدادهم أخيراً ثمانية مليارات. أُعلن الرقم منذ ساعات، والكوكب يئن، والمناخ مُعتلّ. وفي قمة شرم الشيخ، يسود علاء عبد الفتاح على ما سواه، مظلوم بمئة مليون، والأرجح أنه هو نفسه لا يعلم ذلك، ونحن لا نعلم إن كان يحتضر ويُعذّب بالإطعام القسري، أم يسمو على درب النجاة.

الفايسبوك فوضى. كأس العالم الكروي، ومشاحنات البرازيل وألمانيا والأرجنتين... بين من بات حلمهم الحصول على جواز سفر غير لبناني. بل مَن يتمنون استصدار اللبناني الذي بالكاد يأخذهم إلى أي مكان، في وقت لا يربو على أشهر خالية من الحِبر والورق وشهادات "لا حكم عليه". الحكم صادر بالإعدام على الجميع، المسألة مسألة وقت يجري تقطيعه بحماسة وتناحر ضاحك. فوضى، والرئاسة اللبنانية فارغة مفرغة، والحكومة بليدة بلادة العجز والفساد والقرف، والكهرباء أُمنِية، والكوليرا والدولار، والأدوية في حقائب المغتربين لا تزال، ورصاصة تخترق طائرة "ميدل إيست"، وأساتذة الجامعة يناقشون رسائل طلابهم على أضواء الهواتف، والفرح مُستَحَقّ بعمائم إيرانية تتساقط كالمطر في موسم الجفاف.

والفوضى... بدعة سيّد المئة ألف مقاتل. عن مواطنيه يتحدث، لا عن أزماتهم، عن "الشيطان الأكبر" الذي لا يعرف سواه. فوضى. حب وفرح وخوف وسوداوية عميمة.. لولا التفتيش عن البهجة في كومة القش. الكرة في متناول مطمورين بالحسرة أو الفصام التام. ذات مرة كانت الخريطة اللبنانية للساحرة المستديرة، قابلة للتوقع. جزئياً، ما زالت كذلك. "المقاومون" الممانعون "المحرومون" مع العالم الثالث، و"الانعزاليون" مع الأول، ربما. لكن مَن هم المحرومون بيننا اليوم، ومن الصفوة؟ والحالم بهجرة لا يحصّلها، أو يغرق دونها مع عائلته؟ والباقي، رغماً عن الملايين وفوق رؤسهم، مستقوياً بتاريخ مريض بالهيهات؟

اليمين يصعد في مناطق من العالم لطالما ضُرب المثل بديموقراطيتها وتقدمها ورفاه سكانها. واليسار يعود إلى حيث كاد يُفقَد الأمل من عودته، لكن تَحفُّه التحديات وحزازير اقتصادية تتراكم فوق الأحاجي السياسية. فوضى. المهاجرون، الذين، في المنتخبات الوطنية، يصبحون عصباً قومياً تُشدّ أطرافه على حواف الاستادات والكنبات المنزلية، يُقال إنهم أساس كل هذه الخربطة ودوخة اليمين واليسار اللذين ما عادت تلاوينهما بالوضوح الذي يسهل انتماء سياسياً ومناصرة. هذا في الانتخابات، لكن ليس في المونديال حيث الفوز بإسم البلاد هو الأمل الذي يذوّب ألوان البشرة وأجيال اللغات الأصلية والمكتسبة.

في المونديال الماضي، كانت الدنيا اللبنانية غير الدنيا، لاهِية بعاديّتها. في المونديال المنتظر، سيكون جيل أول من اللبنانيين مشجعاً "محلياً" لبلد أوروبي أو حتى عربي استضافه رغم كل شيء، رمى له خشبة. هكذا يصنع وجوده الجديد، قبيلته بديلة الضائعة، هويته المُعادة من صفرها. قبله جِيلان أو ثلاثة أو عشرة من السوريين والعراقيين والإيرانيين والأفارقة...

المونديال الأخير لليونيل ميسي؟ لكريستيانو رونالدو؟ لقد كبرنا بما فيه الكفاية لنشهد كهولتهما الاحترافية، إذ يطويان عتبة الخامسة والثلاثين من العمر، وعلينا من الآن فصاعداً حفظ أسماء جديدة، أو لا نحفظ شيئاً ولا حتى نتابع، نحن الماضين في كهولتنا في غفلة منا. نحن الجيل المشرقي المخضرم بين أزمات، بتقلبات التكيّف، لا بالزمن ومحطاته ونهضاته. الجيل الذي لا يملك رفاهية التقاعد في سن الستين، ولذلك ربما ما زال يعاقر أحلام الشباب. ثم يُصادق أولاده وكُراتهم كسّارة الأثاث، وأمام شاشة التلفزيون المخضوضرة، يستمد من المونديال ذاك المعنى الآخر للمتعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها