الثلاثاء 2022/10/18

آخر تحديث: 14:11 (بيروت)

فسيفساء الرستن.. و"سخاء" القومي السوري ومتحف جواد عدرا

الثلاثاء 2022/10/18
increase حجم الخط decrease
كادت أخبار العثور على لوحة فسيفسائية كبيرة في مدينة الرستن، أن تطغى، خلال الأيام الماضية، على كل الأخبار الأخرى في وسائل إعلام النظام، وتلك التي تدور في فلكه. وأمام الصور التي نشرتها وكالة "سانا" الرسمية، عن لوحة قابعة بين البيوت، لم يعد مهماً خبرُ تراجع قيمة العملة السورية أمام الدولار، كمثال، وتجاوزها حاجز 5000 ليرة. وربما يستحق الأمر التدقيق في آليات عمل الصحافيين الذين يضعون المانشيتات في الصحف والمواقع الإلكترونية الموالية، إذ لا يخفى ذلك الانزياح نحو الأخبار الثانوية على حساب تلك المتعلقة بحاجيات الناس ومصالحهم اليومية.

اللوحة "المكتشفة حديثاً" بحسب المانشيتات، ليست جديدة، إذ يقول أحد المتابعين بأنها مُكتشفة منذ بداية الثمانينيات، وأن ثمة وصفاً لمحتوياتها في كتاب "المشاهد الأسطورية في الفسيفساء السورية خلال العصر الروماني"، الذي نشرته المديرية العامة للآثار والمتاحف، في دمشق العام الماضي. لكن من الثابت أنها معروفة لمديرية الآثار في محافظة حمص التي تتبع لها الرستن، منذ العام 2018، وقد أبلغتها الأجهزة الأمنية التي دخلت المنطقة في السنة نفسها، بوجودها.

وقد كان ملفتاً آنذاك أن إعلان العثور على هذا الاكتشاف جاء في سياق الحديث عن قيام المجموعات الإرهابية المسلحة، وهي التسمية التي يطلقها إعلام النظام على فصائل المعارضة المسلحة، بالإضرار بآثار المدينة ومحاولة سرقتها. وتكرر، في السياق، الحديث عن عثور الجهات المختصة في هذه المنطقة على قطع أثرية هنا وهناك، كانت مُعدّة للتهريب والبيع في أسواق تجار الآثار خارج البلاد. والحال أن السردية التي يتداولها إعلام النظام، تجعل من الآثار السورية مادة لمدح الذات، ولإدانة المعارضة، عبر دوام القول بأن فصائل المعارضة تاجرت بالآثار، بينما نالت المواقع الأثرية الأمن والأمان على أيدي قوات النظام!

لكن هذه الحكاية المكرسة بسبب حوادث تدمير الآثار الشهيرة على يد تنظيم الدولة/داعش، ومحاولات اللصوص التنقيب بشكل غير قانوني في المناطق الخارجة عن السيطرة، وتورط فصائل محددة في سرقة قطع أثرية، لا تصلح لأن تكون مادة إدانة. إذ يحفل تاريخ النظام بسجل هائل من التعاطي اللصوصي مع الآثار السورية، منذ عشرات السنين. والحكايات التي تُروى عن أفعال رفعت الأسد ببيع الآثار السورية مشهورة جداً، كما أن حالة الفوضى التي سادت طيلة العقد الماضي أدت إلى تفاقم تجارة الآثار المكتشفة بشكل غير قانوني على ضفتي الصراع المسلح. غير أن أكبر خلل يشوب هذه الطريقة في سرد الأحداث، يتأتى من الدفع بهذا الموضوع إلى الواجهة على حساب تفاصيل أخرى. فكما يتجاهل الصحافيون المؤيدون، واقع السوريين الآن، لإظهار اكتشاف أثري... فإن تغطيات دخول جيش النظام إلى المدن المنتفضة ضده، تجاهلت التدمير الكبير الذي أحدثه طيرانه ومدفعيته منذ وقت مبكر. فالرستن، كنموذج للمدن التي تمت مهاجمتها باستخدام مفرط للقوة، دُمّر ثلث أبنيتها، بحسب تقارير نشرت في نهاية الشهر العاشر من العام الأول للثورة.

ومن هذه النافذة المغلقة وعبر زجاجها المطلي بالأسود، لا يرى إعلام النظام، ومحرّرو الأخبار في مواقع متعددة، الدمار الكبير الذي أحدثته أفعال قوات النظام بالمواقع الأثرية، لا سيما في المناطق حيث ساد اقتتال مباشر مع المعارضين المسلحين. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ربما يفرد لها أصحاب الاختصاص صفحات مطولة، كتدمير مئذنة الجامع الأموي في حلب، وقصف دبابة لمئذنة الجامع العمري في درعا البلد ما أدى إلى هدمها بالكامل، وقصف طيران النظام لقلعة ومسرح بصرى الأثري!

ويبقى العار الأكبر ملتصقاً بالنظام وجيشه وكل مسانديه، في استخدامه المشين لسلاح البراميل المتفجرة، الذي أحدث دماراً مرعباً على امتداد الأرض السورية. وفوق إزهاقها الأرواح بالجُملة وبشكل عشوائي، فإن البراميل لم تميز أيضاً بين البيوت والمؤسسات والمواقع الأثرية.

وبالعودة إلى لوحة الرستن، فإن متابعة أخبارها، الرسمية منها، والشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ستُظهر أن التركيز عليها، جعل منها مسرحاً لاستعرض القوة. فقالت مديرية الآثار في محافظة حمص، بأنها "عبارة عن لوحة فسيفساء من العصر الروماني، لا مثيل لها في العالم. وتتضمن مشهدين رئيسيين، الأول هو ثلاثة أطر ودائرة بالمنتصف، فيها رسوم لأخيل مع ملكة الأمازونيات، وتجسيد لهرقليس مع ملكة أمازونيات أخرى، وحول الإطار رسوم لأمازونيات مع ملوك اليونان". ثم ردّ أحد المتابعين، بأن المديرية تجانب الصواب في نسب اللوحة إلى العصر الروماني، وأنها تعود للعصر الهيليني، وأن "مادة اللوحة تتحدث عن انتصارات اليونانيين على شعوب شرقي المتوسط وهزيمة أتباع معبد داجون الموحدين للإله عليون (إيل) أمام قوات الإغريق التي نشرت ثقافة الآلهة الاثني عشر ومقرهم جبل أولمب"!

لكن هل يشكل نَسبُ اللوحة للعصر الروماني أو الهيليني فرقاً لدى "الرفيق" أحمد سبسبي، أمين شعبة الرستن لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي "تفقّد" الموقع حيث اكتشفت لوحة فيسفاء "لا مثيل لها في العالم" بحسب صفحة شعبة الحزب في فايسبوك؟! وتوصيف الزيارة بأنها "تفقّد" يوحي بأن الزائر مسؤول عن المكان، ويكاد يملكه، رغم أن البلاد لم تعد محكومة من قبل حزب البعث، بحسب تعديلات النظام الرسمية على شكل السلطة!

لكن بخل بعثيي النظام، والاكتفاء بالزيارة والتفقّد، لن يمنع أحزاباً أخرى من التصرف بسخاء يوحي بتحمل مسؤولية كبيرة. فقد ذكر موقع الفينيق، التابع للحزب السوري القومي الاجتماعي، بأن الدكتور فداء غسان جديد، قام بشراء منزلي اللوحة الفسيفسائية بالرستن وأهداهما إلى المديرية العامة للآثار! وفي شرح "الرفقاء" لطبيعة هذه الخطوة، استطرد الموقع قائلاً: "على خطى سعاده، آمن أن تاريخ أمّته يعود إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي وقرن ذلك بالفعل حيث أسس الدكتور فداء غسان جديد، مع رفيقيه السيدين عدرا والحاج، ومن أموالهم الخاصة، متحف نابو على شاطئ الهري شمال لبنان واستطاعوا بجهود مضنيه وبمبالغ ماليه كبيره من استعادة بعض آثارنا المنهوبة وعرضها في المتحف للعموم، إضافة لاستعادة لقى أثريه أعيدت رسمياً للحكومة السورية. واليوم وبعد اكتشاف اللوحة الفسيفسائية المذهلة في مدينة الرستن بمحافظة حمص وحرصاً على تراثنا من الضياع، قام وعلى نفقته الخاصة مع إدارة متحف نابو بشراء البيتين اللذين اكتشفت اللوحة فيهما، وتم التنازل عن الملكية لصالح المديرية العامة للآثار". وضمن السياق هذا، جاءت الممثلة سلاف فواخرجي، عضو إدارة متحف نابو، لتظهر أمام الكاميرات، مؤكدة على صنيع مؤسستها...

وجدير بالذّكر أن متحف "نابو" اللبناني المذكور، لجواد عدرا وزوجته وزيرة الدفاع السابقة زينة عكر، تنتشر اتهامات حوله بالمشاركة في سرقة وتهريب آثار سورية، والمتحف نابَه ما نابَه من جدل وعلامات استفهام، بالحد الأدنى، ظلّت بلا إجابات حاسمة، قضائية أو غير قضائية. ثم حدث أن أعاد "نابو" خمس قطع أثرية إلى دمشق، في كانون الثاني/يناير الماضي، بعدما ظلت معروضة فيه منذ 2018، تعود للعصر الروماني، وهي من آثار مدينة تدمر التي لحق بها الدمار. يومها، قال مدير عام الآثار والمتاحف في سوريا، محمد نظير عوض، في مراسم تسليم أقامها المتحف الوطني اللبناني في بيروت، إن التماثيل المصنوعة من الحجر الجيري والأحجار الجنائزية المنقوشة، وتعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وقد أُعيدت "بمبادرة كريمة" جواد عدرا، الذي، بحسبه، اشترى القطع من دور المزادات الأوروبية قبل اندلاع الحرب السورية في 2011، وعرضها في متحفه الخاص، قبل أن تعود بعد سنوات إلى "موطنها الأصلي"... أي أن الآثار تأتي وتذهب وتتنقل بكل أريحية، ولا بأس -مع تحسين الظن والنوايا- من عرضها بضع سنوات هنا وبضع سنوات هناك، قبل أن يحين موعد "مبادرة كريمة" من شريك في حب الإرث الوطني السوري.

أما التعليقات على حكاية لوحة فسيفساء الرستن، في الصفحات السورية في مواقع التواصل، فكثيرة، ومنها دعوة أحد المعلقين إلى ضرورة كشف الآثار قبل بناء الفنادق، مُعرضاً بقيام رئيس الوزراء حسين عرنوس، قبل أيام، بافتتاح فندق "غولدن المزة"، وهي الواقعة التي سخر منها كثيرون لأسباب أخرى وبديهية. بينما حمد البعض الله على أن اللوحة لا تمشي ولا تتحرك، وإلا لكانت قد اختفت من سوريا قبل زمن طويل!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها