الجمعة 2021/09/17

آخر تحديث: 18:07 (بيروت)

حزب الله: النصر المتصاغر

الجمعة 2021/09/17
حزب الله: النصر المتصاغر
وصول شاحنات المازوت الى بعلبك (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
"المقاومة حياة"... "إنها القدرة على التخفيف من أنين الناس". بهذه العبارات وصف بعض إعلام "حزب الله" دخول صهاريج المازوت الإيراني. إنها الحياة التي تسلبها "المقاومة" بيد، وتمنح فُتاتها باليد الثانية. إنها، فعلياً، الحياة المديدة و"المعافاة"، المُقدّرة للخطاب، أكثر منها للناس الذين احتفلوا "عفوياً" بـ"كسر الحصار"، والناس الذين تفرجوا على الملهاة الصفراء. فأي حصار؟ وعلى مَن؟ وكيف كُسر ولمصلحة مَن؟ لا يهم، المهم أنه كان "دخولاً مهيباً للمازوت الإيراني"، حسبما كتب مغرّد تحت هاشتاغ #قوافل_الوعد_الصادق.


غير أن الهيبة التي تمتعت بها الصهاريج، بات تجافي الخطاب الإلهي المتقهقر في مضمونه، بعدما بلغ ذروته في إرجاع انتهاء حرب تموز إلى "نصر من الله". وذلك رغم – بل ربما بسبب – تصاعد اللغة التي، بقَدرِ ما تنتفخ وتتورّم بالعظَمَة، تفضح هزال جَوفها. في العام 2006، ارتطم مخّها بسقف السماء السابعة، فما الذي تبقى للقَول بعد إسم الجلالة؟

من "تحرير الجنوب" العام 2000، إلى حرب 2006، وغزو 7 أيار 2008 لبيروت ومناطق في جبل لبنان، وبينها وبعدها ما استتر وظَهَر من "الغالبين"، وصولاً إلى المَدَد بالمازوت الإيراني.. لا تني الانتصارات تتقزّم، من دون أن يعني ذلك تقزُّم دور "حزب الله" وأثره، لبنانياً وإقليمياً. كل ما في الأمر أن عملية إحصاء الإنجازات الصالحة للاحتفاء العلني، في ظل ازدياد ضراوة وتوسع التدخلات في الداخل والخارج، باتت أصعب. هكذا، طفا المازوت على سطح بحر اللعنات.

موجات اغتيالات متعاقبة، استمرت حتى الأمس القريب، والأرجح أنها لم تُختتم. نتائج المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. التهريب، كبتاغون وسلاحاً ومحروقات وأدوية. وانتخابات وحكومات تتشكّل أو تسقط، وثورة 17 تشرين المُجهَضة.... دَحرُ "الإرهاب" في سوريا، وتحدّي العقوبات على سوريا وإيران، عبّد الطريق لحزب الله ومازوت قوافله. دَحرٌ كلفته ملايين القتلى والنازحين واللاجئين السوريين... و"عَبَّد"، هنا، فِعل صحيح وكامل.

المازوت يكسب. الـSpin-Doctor يزداد خبرة في شقلبة المَشاهد والوقائع. والخطاب يتكيّف.

"دكاترة الشقلبة" موجودون حول العالم، يرافقون رؤساء منتخبين وزعماء أبديين ومستبدين قدامى وجدد. يدوّرون ويقلِبون الحقائق والروايات، مهما كانت كارثية ومؤلمة وكفيلة بإطاحة أبطالها، فتمسي أركان أمجادهم وأسباب بقائهم. و"حزب الله"، في هذا، ليس خارج العالم، وإن كانت البراعة شأناً آخر. النصر صناعة، والحزب يمتلك بدلاً من المصنع الواحد، مدناً صناعية، ولا أحد يأبه للتلوث.

هكذا تولد "قوافل الوعد الصادق". فـ"الدكتور" الشاطر يجيد تدوير الأرشيف أيضاً. يسترجع "عملية الوعد الصادق" في 12 تموز 2006، والتي استجرت حرب الـ33 يوماً والخسائر اللبنانية الفادحة في الأرواح والبنية التحتية والممتلكات. وإن ننسى، لا ننسى، إتمام صفقة تبادل أسرى لبنانيين وفلسطينيين مع رفات جنديَين إسرائليَين، في 16 تموز، أي بعد شهرين فقط على 7 أيار 2008. في 2006، قيل أن معيار النصر هو عدم تمكّن إسرائيل من تحقيق أهداف حربها على الحزب. وفي 2008، كان المعيار إحباط "المؤامرة" على شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله، و"مخطط" إقالة قائد جهاز الأمن في مطار بيروت، العميد وفيق شقير. في تلك الأيام، كان الانتصار انتصار إزهاق نوايا الأعداء. واليوم، فإن القوافل "داست على كل قوانين العقوبات (#قيصر_تحت_أقدامنا!)، وحطمت أيضاً اتفاقية سايكس بيكو وكل الحدود الجغرافية المصطنعة والتي لم نعترف بها أصلاً".

لكن هذا ما فعله تنظيما "القاعدة" و"داعش" أيضاً. وهو ما تفعله يومياً في كل مكان، مافيات وكارتيلات. تحطيم الحدود التي تكرّس السيادة وترمز لها. كسر "الحصار" والحدود، هو أيضاً كسر لمفهوم الدولة عموماً (كما في اليمن وسوريا والعراق)، وخصوصاً الدولة اللبنانية "التي لم نعترف بها أصلاً"، حسبما غرّد مناصر للحزب. هنا اتساق وحقيقة. وهنا بَرَع "دكاترة الشقلبة" في حزب ولاية الفقيه حينما ابتدعوا أخيراً شعار "الكرامة ما بدها جمرك"... و"الجنّة الجمركية" تنطبق على السلاح، والكبتاغون، والمحروقات والأدوية وسائر السلع المتسربة في الاتجاه المعاكس لاتجاه صهاريج المازوت الإيراني. فالجمرك للأذلاء الخانعين الضعفاء. فلتنثر النسوة الأرز، وليُطلق المحازبون الرصاص والـ"آر بي جي" ابتهاجاً. الجمرك للدولة. والدولة مُحتقرة. وثمة أكثر، في التسارع المدوّخ للدائرة المفرغة. دولة فاشلة الآن بسبب تراكمات منظومة ركّبها و"طهّرها" وتزعمها وحماها "حزب الله"، ليصير الحزب ملجأ بيئته لتصريف شؤون الحياة بل للبقاء، وهذا "اللجوء" في حظيرته يزيد الدولة تشظياً فيما يزداد هو هيمنة، وهكذا تدور...

لعل خطاب "حزب الله" لم يُعرف يوماً بالعقلانية أو الواقعية، لكن تقهقره هو سمته الطاغية اليوم. يزداد تضاداً مع مسعى المليشيا لتدعيم "جناحها السياسي"، ويزداد انسجاماً مع مفهوم السياسة في القرن التاسع عشر وما قبل، والذي دار في فلك الفكرة القائلة بالحق للأقوى، "والحمد لله أننا دائماً على حق". خطاب يزداد تضاداً مع الأخلاق، وحتى مع طبيعة العواطف البشرية، وإلا فكيف تُفسَّر شعارات التنويع على جراحات المجاهدين ودماء الشهداء باعتبارها أزهرت.. مازوتاً؟ الإيديولوجيا جزء من الإجابة. لكن الإيديولوجيا، بلا عناصر تمكُّنها من القيادة، قسراً أو برافعة "شعبية"، لا يسعها تعميم "الفرحة" ومفردات النصر المحقق والاحتفالات "العفوية" بالشكل الذي رأيناه. بل هي الإيديولوجيا حين تستتب لها السيطرة وتستوفي مقاليد حُكم الجماعة بالكامل. الأقوى، على الأرض، ربما لا يكتب التاريخ على غرار المنتصر الحقيقي، لكنه، ومن دون تكبّد مشقّة الإقناع، يمكنه أن يحتكر صياغة الخطاب السائد مهما صغُر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها