الأحد 2021/08/08

آخر تحديث: 10:49 (بيروت)

"شاري جاز": نهر الموسيقى في تشاد

الأحد 2021/08/08
"شاري جاز": نهر الموسيقى في تشاد
شاري جاز
increase حجم الخط decrease
بتأثير من الموسيقى الكونغولية، أسس موسيقي تشادي اسمه نايمو امابيتولوم غداة الاستقلال فرقة سمّاها "ستار جاز باند". كان ذلك في مدينة فور أرشامپول التي عمّدها الرئيس تمبلباي لاحقاً لتصير "سار".  ظلّ نايمو يعزف ويغني ويقيم الحفلات رفقة شباب الحارة المحبين للموسيقى،  بدأوا العزف على آلاتٍ بدائية. وفي الحادي عشر من كانون الثاني يناير عام 1964، أثناء احتفال الرئيس تمبلباي في عيد الاستقلال، استمع إلى أغانيهم وشاهد أداءهم وفوراً أمر رئيس بلدية المدينة بأن يوفر آلات حديثة لهذه الفرقة الموسيقية، كما أمر نايمو ومجموعته بأن يعمّدوا فرقتهم باسم "شاري جاز".

لم يحدث الأمر اعتباطاً هكذا، بل كانت ثمة قصة وراء ذلك. ففي الحادي عشر من كانون الثاني وصل رئيس دولة زائير آنذاك، الجنرال جوزيف موبوتو إلى أرشامپول لحضور حفلة عيد الاستقلال التي استضافتها المدينة الجنوبية. لم يأتِ الرئيس لوحده، بل جلب معه الفرقة الكونغولية الشهيرة "تابوليه"، التي تعدّ الأشهر في افريقيا في ذلك الوقت. غنّتْ الفرقة وبعدها صعدتْ فرقة تشادية إلى المسرح بآلات بدائية، لكنها قدمتْ أداءً أبهر الحضور وأغنية رددها الجميع، هذا المشهد أغضب الأوركسترا الكونغولية وأبهج  فرانسوا تمبلباي، الذي كان يبحث عن المجد في كل شيء.

وبعد أن وصلت الآلات الموسيقية الحديثة من بانغي، أمر الرئيس بأن تسمى هذه الفرقة بـ"شاري جاز". شاري وهو نهر كبير يمر في جنوب البلاد، والجاز هو الموسيقى المفضلة للرئيس. بعد هذا الدعم الرئاسي المباشر انضمت إلى الفرقة مجموعة من المبدعين واشتهرت إلى الحد الذي انضم إليها فنانون من الكونغو والكامرون وافريقيا الوسطى، للتدرب واكتساب الشهرة والعودة إلى البلاد. بعد أن عزف آدم فريموس لعقد كامل، غادر الفرقة تاركاً غيتاره لعازفٍ شاب يدعى رامادنغار، لاحقاً سوف يغادر رامادنغار بدوره ليؤسس فرقة "أفريقا ميلودي" التي نافستْ الأوركسترا الأم، نتج عن ذلك عشرات المبدعين الذين عرفوا في الساحة وأشعلوها لعقود نذكر منهم : تالينو مانو، وندوبا. و. MUJOS و قازونقا. وفي بداية السبعينيات أطلقت الفرقة ألبوماً لا تزال أغانيه تذاع في الإذاعات، وتردد في الحفلات ويرقص عليها الشباب. من أغانيهم التي انطبعت في وجدان غالبية مواليد الستينيات إلى التسعينيات Donia Ngaïgaï وأيضاً Jalousie Madjal حفظ الجميع كلماتها رغم أن البعض لم يفهم لغتها، فالأولى تعني أن "الدنيا مرّة"، مزجوا فيها العربية بلغة السارا، ونلاحظ أن العنوان يتكون من مفردتين "دنيا" و"انقاي قاي"، الأولى عربية والثانية بلغة السارا. والأمر ذاته في الأغنية الثانية؛ فالمفردة الأولى تعني الحسد بالفرنسية بينما الثانية تعني "سيئ" بلغة السارا مما يجعل العنوان "الحسد سيئ" وأغاني عديدة حفظها أغلب مواليد ما قبل الألفين حتى صارت كبطاقة هوية تؤكد أنّك تشادي ومثقف. نذكر منها "أنينا جينا Anina djina، Falmata 
Kag Ndil، Serpent à deux têtes 
غنتْ شاري جاز بالفرنسية والعربية ولغة السارا، غالباً تتصل موضوعات أغانيها بالحب، والشوق للحبيبة وألم فراقها. ثم بعد مقتل داعمها ونشوب الحروب صاروا يغنون عن السلام وأهوال الحرب وأهمية الوحدة الوطنية.

أصدرت الفرقة ألبوماً كاملاً يدعو إلى الوحدة والسلام وعدم التقاتل، كان ذلك في عام 1978 وثمة أغنية تنبأت بوقوع حرب أهلية بين الشمال والجنوب، إذا لم يتدارك السياسيون الأمر. لكنّ أحداً لم يصدق نبوءة الفنانين، وهكذا بعد أشهر من صدور الألبوم نشبتْ حرب أهلية بين الشمال والجنوب ودامت لتسعة أشهر. 


ابتكارات 
ظلت الفرقة تعتمد على الأفرو- بوب. والرومبا الكونغولية لكنها أدخلت فيهما عنصرين ميّزاها عن الفرق الأخرى. فـ"شاري جاز" غنت بالعربية على إيقاعات موسيقى الرومبا، وهو أمرٌ جديد وقتها، ثم إنها قدمتْ رقصات تشادية خالصة لا علاقة لها برقصات الكونغوليين. اعتمدتْ الفرقة على رقصات قبائل السارا، التي ينتمي إليها معظم أعضاء الفرقة وأكسبها بصمة خاصة بها.

وفي عام 1976 ونكاية بالرقصات الكونغولية الشهيرة، أبتكرت الفرقة رقصة أسموها "Zakatoumba" بصوت أبكر المشهور بـ شيكيتو، وهو أحد أشهر أصوات الفرقة قبل أن يأخذ مكانه توغيلنغار بانغار الذي تركه لإيزاكوز ثم تالينو مانو ثم حسين نْدومبيه. اشتهرت الرقصة ودامت حتى أديناها نحن مواليد التسعينيات في مسارح الحارات وساحات المدارس.
 


الصعود والهبوط
بعد ولادتها ببضعة أعوام رأت النور فرقة تشادية أخرى على يد من غادروا "شاري جاز" لأسباب شخصية أسميت "أفريقا ميلودي"، فنتج تنافس شرس تسبب في وصول أصداء الموسيقية التشادية إلى أفريقيا الوسطى والكامرون وفرنسا. ومن هاتين الفرقتين خرج معظم من عرفوا بالفنانين في ربوع البلاد. ومن أشهرهم Talino Manu الذي انضم إلى "أفريقا ميلودي" كمغنٍ ثم عمل مع "شاري جاز" كعازف على الغيتار.

على عكس أغاني الكونغوليين، لم تعرف الأغاني التشادية رقصات عديدة أو حركات بهلوانية. كانت الأغاني تعتمد على كلماتها ومعانيها. ومن البارات الصغيرة مروراً بالصالات الكبيرة من مشارب الحانات إلى بوابة الكنائس، لم تترك شاري جاز مكاناً إلا ودخلته وغنت فيه، ومنها تخرّج أغلب المغنين التشاديين، ولكنها تراجعتْ كثيراً بعد أن مات بعض نجومها أو غادروها. وفي عام 2012 انضمتْ إلى الفرقة مغنية  شابة تدعى مالومتا كريستيان. شابة وسط العجزة، تمكنت بصوتها وبمعرفتها العميقة للعربية من إعادة بعض البريق للفرقة المحتضرة، اذ عادتْ وتمكنت من اصدار ألبوم وإقامة حفلات كبرى قبل أن تنطفئ شمعتهم بفعل رياح الأغاني السودانية التي اجتاحت العاصمة الصغيرة. 

يصفها خصومها بـ"الفرقة التي لا تموت"، وفي الحقيقة، وبعد سنوات من العطاء، عجزت الفرقة عجزاً تاماً. أصابتها كل الأمراض السيئة من ترهل وعجز وإعياء لكنها ما زالت تتنفس. وحتى لحظات كتابة هذه المقالة فإن "شاري جاز" تلتقط أنفاسها وترفض الموت. كانت في القمة، تقيم حفلاتها في باريس وبرازاڤيل وكنشاسا، اليوم لا تستطيع دفع ثمن أجرة مكان آلاتها بينما يواصل أعضاؤها اللهاث بين حانة وأخرى طلباً للأكسجين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها