الثلاثاء 2021/07/13

آخر تحديث: 17:44 (بيروت)

الطُرُق الغريبة للرب والسلطة

الثلاثاء 2021/07/13
الطُرُق الغريبة للرب والسلطة
.. لكن أهالي الضحايا يستلهمون يعقوب (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
"الرب يعمل بطُرُق غريبة"... رغم أن مصدر هذه العبارة، قصيدة/ترتيلة مسيحية من أواسط القرن الثامن عشر، للشاعر الانكليزي ويليام كاوبر، إلا أن فحواها يلخص ما "تبشر" به الأديان المُمَأسسة كافة، ذات السلطان.

الرب لا يعمل من أجلنا، بل بنا وفينا، كي يجعلنا ما يريد هو أن نكون عليه، وتكون عليه الحياة في هذه الأرض التي إليها نفانا من جنّته. خالقُنا قد يحيك لحيواتنا وإراداتنا، أحداثاً ودروباً تخيفنا، نرى أنها -الآن- تضرّنا. لكنه الأعلم منا، وسيثبت لنا أنه يفعل ما يفعل هو الخير والحق والعدل، من أجل "صالح" ما. وما نراه اليوم معضلة، إن لزِمه حلّ، فعلى يد المتصرّف ونِعمَ الوكيل. وما ينسجه الله ويشاؤه قد يبدو لنا غير منطقي، لكنه في الحقيقة أبعد من قدرتنا على الفهم، لأننا قاصرون، أطفاله. لذا، نؤمَر بأن نسير على هدى الإيمان، لا الرؤية والبصر، وعلينا أن نترك، ليس فقط أساليبنا، بل أفكارنا أيضاً. والنعمة والبركات ستأتينا حتماً، حتى عندما لا يطاوعنا إدراكنا على استيعاب البلاء، والأرجح أنها نعمة النسيان. فعقولنا، ما نفكّر فيه ونعتقده، ليست ما يطلب الرب، ولا ما يهتم له أتباعه، بل ما يفكّر الرب فيه ويريده. ومن أجل أن يتواصل معنا و"يهدينا" إلى طريقه، قد يتحامق أحياناً، ويبدو على بلاهة لا تليق بصاحب العرش والملكوت. لكنه، حين يفعل ذلك، يقصد أن ينزل إلى مستوانا، ويرفعنا، بالعمى لا بالبصيرة، إلى مصاف كينونته وإرادته.

هكذا تتصرف السلطة اللبنانية في القضايا والأزمات الراهنة كلها، وتحديداً في ملف تفجير مرفأ بيروت. وزير الداخلية محمد فهمي، يقول لأهالي ضحايا المرفأ إنه عائد لمشاورة الدائرة القانونية في وزارته بخصوص رفع الحصانة عن مسؤولين أمنيين، رغم أن قراره الأول برفض رفعها، قد صدر، وما عاد لوزارته تأثير في مساره، إذ بات في عهدة المدعي العام التمييزي ليبتّ في أمر الحصانة. والمجلس النيابي ما زال ينتظر من المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، مستندات ووثائق "تقنعه" و"تبرر" رفع الحصانات عن نواب حاليين/وزراء سابقين لاستجوابهم، وهو ما قال البيطار إنه لن يفعله، كردٍّ طبيعي لأي قاض محترف يرفض التدخل في عمله وليس عليه إقناع أحد -خصوصاً السلطة- في هذه المرحلة من التحقيق. ومع ذلك، قد يذهب مجلس النواب إلى المماطلة من باب "ليس اختصاص المجلس العدلي، بل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"... ثم تنبت فجأة "خلية متابعة ملف أهالي شهداء المرفأ" التي تحاول تصيُّد البيطار من باب مقابلة إعلامية، لتنخر في عمله ككل، وبإسم الأهالي. لكن الأخيرين سرعان ما أعلنوا تبرّؤهم من هذه "الخلية" وأنهم لا يعرفونها ولا تتحدث بألسنتهم... وهذه ليست سوى عيّنات.

السلطة تتلبّس الإله. تفعل ما هو أكثر من الدفاع عن بقائها. تدافع عن بقائنا، كما نحن، تحت يدها، سالِمين مُسَلِّمين، غانمين مغنومين بها ومعها ومن خلالها. ومثل الإله، تعمل بطُرُقها الغريبة التي تبدو لنا خرقاء، مكشوفة قانونياً وإدارياً وأخلاقياً، وحِيَلها بسيطة سهلة الدحض. لكنها، في مشيئتها، تجارينا في قصورنا وطفولتنا كرعايا لها، متكلة على الاستعصاء العام الذي خلقته هي، وعلى حبها لنا من مثل حب الراعي لقطيعه. على قدّ عقلنا تأخذنا إلى خلاصنا، إلى انتهائنا فيها، وإلى سعادتنا من مثيل سعادة الميت الذي لا يعود شيء قادراً على تكديره. أما الاستعصاء فتُديمه لأنها الأدرى بما سيكون ويجب أن يكون، وإلا استحقّ فناؤها، وهي لا تفنى وحدها، وستُفنينا معها، ومن هنا حرصها على مكوثنا، وهذا هو حرصها علينا. الاستعصاء له حل، إن هي حلّته، وبطريقتها. والاستعصاء يجب أن نفرح به لأنه حتماً من أجل المصلحة، ولا يهمّ مصلحة مَن. فمجدداً، هي العالِمة بما لا نعلم ولا يجوز أن يعلم أهالي الضحايا، بحسب الربوبية الحاكمة.

لكن أهالي الضحايا، سواء بعد اجتماعهم مع فهمي، أو في فضحهم "الخلية" الناطقة باسمهم زوراً، أو في جولاتهم واعتصاماتهم المتنقلة من عين التينة إلى وزارة الداخلية ثم بيوت الرؤساء والوزراء، هم يعقوب الذي لم يتردد في مصارعة الرب حتى يحصل منه على ما يريد، حتى لو سال دم الإنسان على عتبة بيت أحد الآلهة. وفي مقاربة أرضية مفضّلة، هم "المفتش كولمبو" الذي قد يستهين به الجميع، بمن فيهم مرتكبو الجريمة والمتسترون عليها، فلا يقيمون وزناً لهيئته وبساطته و"ضعفه"، لكنه لا يلبث أن يوقع بهم من حيث لا يتوقعون، بهدوءٍ وذكاءٍ ومثابرة، ليست أكبر من أحد، بل الندّ، وفوق ذلك ليس أسهل من فهم قضيتها ودلائلها، مُطالبتها بالعلنية، وطُرُقها المباشرة الخالية من كل غرابة... ولا غريب إلا الشيطان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها