الإثنين 2021/06/07

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"حكايتي مع الكتاب".. ناصر جرّوس وسيرة النشر العربي

الإثنين 2021/06/07
"حكايتي مع الكتاب".. ناصر جرّوس وسيرة النشر العربي
يبسط في كتابه الفخم والأنيق، قلبه وفكره وتجربته أمام القارئ
increase حجم الخط decrease
يبسط ناصر جرّوس في كتابه الفخم والأنيق، إخراجاً وطباعةً، قلبه وفكره وتجربته أمام القارئ، مضيئاً على مرحلة ثقافيّة مهمّة، بحلوها ومرّها، عاشها وواكبها في طرابلس وبيروت والعالمَيْن العربيّ والغربيّ، في مجالات توزيع الصحف والمجلّات، وتأسيس المكتبات وبيع الكتاب، ثمّ طبعه ونشره، وتنظيم المعارض المحلّية والعربيّة والدوليّة.

الكتاب بحسب ما يوحي عنوانه "حكايتي مع الكتاب" كناية عن نبذة من سيرة ذاتية اتّخذت منحَيَيْن إثنين: الحياة الشخصية والحياة المهنيّة، وهو موزّع على قسمين، الأوّل يستعرض سيرة الكاتب الإنسان والناشر، وقسم ثانٍ خصِّص للصور والمستندات.

أمّا عن الحياة الشخصيّة فرواية سريعة عن ولادته في حيفا العام 1947 قبيل النكبة الفلسطينيّة، ونزوح أهله إلى لبنان لإقامة ظنّوها مؤقّتة، وعندما فقدوا الأمل في العودة انتقلوا من العبادية في جبل لبنان، حيث نزلوا، إلى طرابلس حيث استقرّت العائلة وكبرت، وتمكّنت من الحصول على الجنسيّة اللبنانيّة لاكتشاف جذور لبنانيّة لها. ولا يغوص الكاتب كثيراً في تفاصيل حياته في طرابلس، فقصر كلامه تقريباً على التحاقه مع إخوته بمدرسة الآباء الكرمليّين، حيث كان لبعض الآباء، الذين اشتهروا في طرابلس، أثرٌ في تربيتهم وتنشئتهم وتوجيههم، فيقرّ بفضلهم، ليس عليه وحده، بل على شريحة كبيرة من أبناء جيله، متحدّثاً عن دوام العلاقة ببعضهم البعض إلى زمنٍ متأخّر. كما اقتصر كلامه عن حياته الاجتماعية على علاقته ببعض الأصدقاء في مرحلة الشباب، من مختلف الطوائف، موظّفاً ذلك في استذكار أجواء الإلفة والتعايش بين أبناء المدينة بعيداً من النقاشات السياسيّة والدينيّة، وهو ما عاشوه معاً في نادي "بلاك هيدBlack Head" المُغلق الذي أسّسوه وتفرّعت منه فرقة موسيقيّة "Just 4" عنيت بالموسيقى الغربيّة الرائجة جدّاً في أوساط جيلهم في تلك الحقبة، وأقامت الكثير من الحفلات. وتعدّدت بعدها الفرق الموسيقية الغربيّة التي تركت أثراً في طرابلس والشمال.

يبدو واضحاً أنّ الكاتب، بقصره الكلام على هاتين الناحيتين، أراد التركيز على البيئة الطرابلسيّة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وعلى أجواء الانفتاح السائدة فيها والتي هيّأته لمسيرته العلميّة والمهنيّة، وثبّتته في المدينة بالرغم من الظروف القاسية التي عاشتها إبّان الحرب، عبر شبكة العلاقات التي بنتها العائلة، ثمّ هو شخصيّاً، مع وجوه طرابلسيّة معروفة ومشهود لها في المدينة والجوار، والتي خصّها بالذكر أو بالكلام المفصّل عنها في ثنايا الكتاب، من أفراد العائلة إلى الأصحاب والأصدقاء وشركاء العمل، إلى وجوه دينيّة واجتماعية كانت لها مراكز مرموقة في طرابلس والشمال، جمعته بها العلاقات الشخصيّة وتركت أثرها في نفسه.

ثمّ يتكلّم عن دراسته الجامعيّة ونيله شهادة الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت، حيث زامل شخصيّات اجتماعية وسياسيّة كان لها شأنها في الساحة الوطنيّة في ما بعد. وفي الجامعة اليسوعيّة، في المرحلة التي سبقت الحرب الأهليّة وهيّأت لها، تكوّنت له قناعة بـ"أنّ التغيير في الأنظمة السياسيّة والتحوّلات الكبرى تنطلق من الجامعة" لكن للأسف تحوّلت رياح للتغيير عاصفة أطلقت الحرب الأهليّة التي أكلت الأخضر واليابس. إلا أنّه بعد تخرّجه لم يمارس مهنة المحاماة لانصرافه إلى عالم الكتاب والنشر.

يتحدّث بعد ذلك عن تعرّفه بزوجته المرحومة غلوريا، وزواجه بها في أحلك ظروف الحرب، ثم عن مرضها ووفاتها في مقتبل العمر.

ويروي جرّوس جوانب من حياته العائليّة، من منزل الأهل، ووفاة أخيه باسل، إلى زواجه الثاني وما سبّبه من مشاكل مع أهله وأهل زوجته المتوفّاة، إلى نجاح هذا الزواج الثاني والتغلّب، مع زوجته الثانية جينا، على هذه المشاكل، ونجاح هذا الزواج خصوصاً أنّ جينا عرفت كيف تحضن الأولاد وتعنى بهم عناية الأم.

ويخصّص جرّوس فصلاً للكلام على عائلته فرداً فرداً، الوالد والوالدة والأخوة والزوجة والأولاد، معطياً لمحة سريعة عن حياة كلّ منهم وصورة صريحة عمّا يراه في شخصيّاتهم ناصحاً وموجّهاً بصدق وإخلاص.

وإذا أولينا هذا الجانب من سيرته هذا الاهتمام فذلك لأنّ ناصر جرّوس يحكي الأمور على هينتها وبساطتها، وبعفوية تنمّ عمّا في قلبه من طيبة وصدق، يروي ما له وما عليه، دونما أحكام ولا أحقاد، مشركاً القارئ في خصوصيات حياته الشخصيّة مبرهناً عن مدى القرب والمودّة التي جمعته بكل من عرفه. يبدو هنا وكأنّ "قلبه على كفّه" كما يقال في عامّيتنا، يفتحه لمن يشاء، ويبوح بما اعتمل في نفسه وما يزال، وخاتماً دوماً بعتب بسيط ومسامحة هي من شيم النفوس الكبيرة.

وذلك أيضاً لأنّ هذه الطيبة وهذا الصدق انسحبا على حياته العمليّة والمهنيّة حماساً دفعه إلى بذل الغالي والرخيص فيها، دافعاً الأثمان الغالية في الكثير من الأحيان، كما يتبيّن في المنحى الآخر، والأساسيّ، الذي اتّخذه الكتاب، أي علاقة المؤلِّف بالكتاب وعالمه توزيعاً ونشراً وترويجاً.

في طرابلس
البدايات من العام 1978 مع تأسيس مركز توزيع الكتاب (والمطبوعات) في طرابلس والشمال مع شقيقه باسل، وذلك من خلال مهنة والدهما "التي ترسّخت في التعاطي مع الصحف والمجلّات العربيّة والأجنبيّة" في طرابلس ومناطق الشمال. وسرعان ما تحوّل مركز التوزيع في شارع عز الدّين، كما كان مركز توزيع الصحف من قبل، ملتقى ومنتدى لمجموعة كبيرة من مثقّفي طرابلس والشمال، صحافيّين وشعراء وأدباء وباحثين وفنّانين، ذكر منهم الكاتب عدداً كبيراً وخصّهم بنبذة عن نشاطهم ونتاجهم وعلاقتهم بمركز التوزيع وبدار النشر لاحقاً. والجدير ذكره أنّ هذا المنتدى المتخصِّص "سدّ الفراغ" الذي خلّفه إقفال "المكتبة الحديثة" بعد اغتيال صاحبها ميخائيل فرح الذي سبق أن فتح أبواب مكتبته ومجلسها أمام هذه الشريحة من الناس مسهّلاً لهم وسائل الحصول على الكتاب، على غرار ما فعل ناصر وإخوته استكمالاً لهذا الدور.

في هذا المركز-المنتدى، نشأت علاقات وتولّدت صداقات، وعبره كثرت النشاطات واغتنت، بين الأعضاء-الزبائن، كما بينهم وبين أصحاب المركز الذين لم يقصّروا في تقديم التسهيلات لكل طالب خدمة في مجال الأبحاث، ولكلّ سائل عن كتاب ومرجع، إذ يجدون النصح والإرشاد من ناصر وباسل، أو من المتخصّصين المتواجدين في المركز. وكان من شأن هذا الجو الذي تخطّى إلى حدٍّ كبير البعد التجاري، أن ساعد الكثيرين على إغناء مكتباتهم، كما أعان الوافدين الجدد إلى عالم الأدب والكتاب على تأسيس نواة مكتباتهم المنزليّة عبر التسهيلات بالدفع (التقسيط) لشراء المجموعات الأدبية لكبار الأدباء اللبنانيّين والعرب، والموسوعات العلميّة الأجنبيّة التي كانت حاجة في المكتبات قبل عصر الانترنت والغوغل والويكيبيديا. كما أولى ناصر وشقيقاه اهتماماً للمنشورات الأجنبيّة من كتب ودوريّات، فافتتحوا في شارع عزمي في طرابلس مكتبة "لوبوكان Le bouquin" التي تولّى إدراتها أخوه رفيق، والتي لاقت إقبالاً من المهتمّين من قرّاء الأدبين الفرنسيّ والانكليزي بنوع خاص. إضافة إلى افتتاح مكتبة كبرى على طريق الميناء، التي اضطروا إلى إغلاقها لاحقاً بسبب الأوضاع الأمنيّة والاقتصاديّة، لكنّهم عادوا وفتحوا مكتبة أخرى في شارع جميل عدرا ما تزال عاملة حتى يومنا هذا.



كان من شأن هذه الأجواء المشجّعة، ما بين الصداقات والإقبال الكبير على الكتاب، قراءة وتأليفاً، أن شجّع ناصر على تأسيس دار نشر في العام 1980، تحت اسم "جرّوس برس"، التي ازدهرت شمالاً وفي بيروت، إذ نشرت "ما يزيد عن 400 عنوان منها 100 عنوان لكتّاب شماليّين". وقد حقّقت هذه الدار نجاحها على  مستوى الشمال ولبنان والعالم العربيّ، كما فتحت الباب أمام ناصر شخصيّاً لنسج العلاقات مع كبريات دور النشر والمؤسّسات والشخصيات الفكرية والثقافية المحلية والعربيّة والعالميّة، ولمشاركته في المعارض الكبرى، ليس كدار نشر وحسب، بل كعنصر فاعل إدارياً وتنظيميّاً، وكمنشِّط أرسى علاقات وثيقة ومهمّة على المستويّين العربيّ والدوليّ، وهو ما سيتحدّث عنه بالتفصيل في الأقسام التالية من كتابه.

في هذه الأجواء كان لا بدّ لمؤسّسة جروس أن تلعب دوراً مهمّاً في إقامة معارض الكتاب والمشاركة فيها في طرابلس أوّلاً، وبالتعاون مع الأندية والروابط والمؤسّسات الثقافية الناشطة في المدينة، ومنها على الأخصّ الرابطة الثقافية التي ضمّت نخبة من خيرة وجوه طرابلس الأدبية والثقافيّة والإجتماعيّة، مع ما رافق هذه المعارض من ندوات ومحاضرات واستقبالات لشخصيّات أدبية وفكرية لبنانيّة وعربية وعالميّة. وعندما ساءت الأوضاع الأمنية في طرابلس، مع حرب أبو عمّار، بين العامين 1981 و1986، وما سبقها وأعقبها، من شللٍ نسبيّ في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصاديّة، ومن سيطرة الحركات الأصوليّة على الشارع والقرارات، ثمّ مع أحداث باب التبانة وبعل محسن التي طالت وطالما شلّت الحياة في المدينة، ظلّت الأوساط الثقافية مصرّة على ممارسة نشاطها، حتّى أنّه جرى افتتاح أحد المعارض في مركز الرابطة الثقافيّة، الواقع على مسافة قريبة من مواقع الاشتباكات، على وقع أزيز الرصاص وأصوات القنابل.

في ظلّ هذه الأوضاع، ومع التباعد النسبيّ الذي ولّدته الحروب بين مناطق الشمال، من دون أن تفقد طرابلس دورها كمركز استقطاب وانطلاق النشاطات الثقافيّة، عمل ناصر جرّوس من خلال مؤسّسته على إقامة معارض الكتاب في مختلف أقضية الشمال، من زغرتا إلى أميون والضنّية وعكّار، وكان له الدور الكبير والفاعل في تنظيمها وتنشيطها بما كوّنه من خبرة وعلاقات في هذا المجال. وقد لعبت هذه المعارض دوراً كبيراً في إيصال الكتاب إلى القرّاء والمهتمّين في هذه المناطق، حتى تحوّلت هذه المعارض في بعض المناطق، إلى نشاط دوريّ سنويّ (زغرتا مثلاُ) يتّخذ طابع المهرجان ويشارك في افتتاحه وفي حضوره شخصيات سياسيّة واجتماعية شماليّة بارزة وفاعلة.

مع ذلك كله، لا يُخفي ناصر جرّوس ما عانته المدينة، في مجال الكتاب والمعارض والنشاطات الأدبيّة والثقافية، من قصور أو فشل بسبب الصراعات الشخصيّة والعقائديّة، وبسبب سوء التنظيم والإدارة، وفي فترة ما، بسبب سيطرة التنظيمات الأصوليّة المتطرّفة ومحاولاتها فرض آرائها وسلوكيّاتها، وتحكّمها بمسار الأمور. وهذا ما أدّى إلى تدنّي مستوى هذه المعارض، وفشلها إلى حدّ بعيد في المراحل الأخيرة، وهو ما جاهر به الكاتب في مقالٍ له في جريدة النهار في 18 أيار العام 2010 تحت عنوان "معرض الكتاب في طرابلس، إهانة للثقافة، ولا أي اهتمام رسميّ".

إن ما يصرّح به الكاتب، وما يُستشفّ من بين سطوره، هو رغبته في التركيز على هذا الصراع الذي عاشته مدينة طرابلس من أجل الحفاظ على هويّتها، كمدينة العلماء، ورمز التعايش، وحاضنة الفكر والأدب وما يحيط بهما من نشاطات، في وجه الصورة النمطيّة المشوّهة التي حاول كثيرون أن يُسبغوها عليها. وها هي اليوم، بعد انتهاء حروبها وزوال الأسباب المصطنعة إلى حدٍّ كبير، تحاول استعادة هذا الدور وإحياءه، عبر مراكز ثقافية عريقة ومستحدثة. إلا أنّ الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعية التي تعصف بها كما بكلّ الوطن، إضافة إلى جائحة كورونا، قد كبحت هذه الانطلاقة المتجدّدة وأرجأت برامجها، على أمل أن تصفو الأمور وتعود حياتها الاقتصاديّة والثقافية إلى ألقها.

من طرابلس إلى بيروت والعالم
هي مرحلة غنيّة ومهمة في مسيرة ناصر جرّوس، انتقل فيها من طرابلس مع بداية تسعينات القرن الماضي، ومع بداية إعادة إعمار لبنان، إلى بيروت ومنها إلى العالميّة. محطّات كثيرة تحدّث عنها بالتفصيل، من انتسابه إلى "اتّحاد الناشرين" في لبنان، والذي تحوّل لاحقاً إلى نقابة، وانتخابه لمرّات متتالية عضواً في مجلس إدارته، إلى مشاركته وعمله على إعادة إحياء "اتّحاد الناشرين العرب في بيروت"، ونشاطه الحثيث عبره لتنشيط حركة النشر العربيّ وتنظيمها وضبطها، وصولاً إلى تحقيق انفتاحها على حركة النشر العالميّة عبر الصِلات التي أقامها مع معارض الكتاب الدوليّة، ومع القيّمين عليها، ونجاحه في إشراك العالم العربيّ ضيفاً في معارض كبرى مثل معرض فرانكفورت ومعرض لندن ومعرض نيويورك.

عرض جرّوس بالتفاصيل الدقيقة لنشاطات الاتحاد ودوره فيها، وذكر أهمّ النجاحات التي حقّقها، مثل إقامة معرض بيروت الدولي للكتاب والاحتفال ببيروت عاصمة عالميّة للكتاب في العام 2008. والانفتاح والتنسيق على دور النشر والمؤسّسات الرسميّة في الدول العربيّة. وأضاء من جهة على نجاحات الاتّحاد في نواحي مختلفة، واعترف من جهة أخرى بفشله كما في كلامه على معرض الكتاب الدولي في بيروت حيث قيّم أعمال المعرض مبيّناً أين ومتى نجح، وأين ومتى فشل.

ثمّ يستعرض جرّوس نشاطاته، عبر اتحاد الناشرين، في العالم العربيّ، من مشاركات في معارض الشارقة وأبوظبي والدوحة والسعوديّة وغيرها، كاشفاً عن دوره شخصيّاً في فتح العلاقات بين المسؤولين عن هذه المعارض وبين مسؤولي المعارض الدوليّة، إذ كان يُكلّف وضع الخطط والقيام بالاتصالات وتدبير وتنظيم الاجتماعات، فيوظّف ما أقامه من علاقات عمليّة أو شخصيّة مع الكثير من أعلام وأقطاب النشر والمعارض في العالمين العربي والغربي، في خدمة الكتاب العربيّ والعمل نشره وإيصاله إلى أكبر شريحة ممكنة من المجتمعات العربيّة، ثمّ بإيصاله إلى العالميّة عبر المشاركات العربيّة في المعارض الدوليّة. ونكتشف من كلامه على دوره هذا حجم العلاقات العربيّة والدوليّة التي أقامها، والثقة التي حظي بها في هذه الأوساط، والنشاطات التي قام بها، والنجاحات التي تحقّقت من دون إغفال النواحي السلبيّة التي اعترضته أحياناً، والتي تشوب حركة النشر وأنظمتها في لبنان والعالم العربي. وفي تناوله هذه النشاطات وردت بشكلٍ غزير أسماء شخصيّات ومؤسّسات وهيئات ووزارات، في العالمين العربيّ والدوليّ على الأخصّ، يضيق المجال عن ذكرها هنا، لكنّها تبيّن حجم الجهود التي بذلها في خدمة الكتاب العربيّ.

طبعاً هذا القسم هو الأغزر والأهمّ في كتاب جرّوس كونه مخصّصاً لهذه الناحية في الأساس. والأهمّ في هذا القسم، إضافة إلى تدوينه وتوثيقه لمرحلة طويلة ومهمّة من مسيرة الكتابين اللبنانيّ والعربيّ، ومن انفتاح حركة النشر بين الشرق والغرب بالاتجّاهين وجهوده الشخصيّة في هذا المجال، هو الخلاصات التي أوردها عن نتائج تجربته التي امتدّت إلى ما يقارب أربعين عاماً. من أهمّ هذه الخلاصات أنّ روح التعاون عندما تتوفّر تتحقّق النجاحات، لكن للأسف ما زالت الفردانيّة وما ينتج منها من صراعات تضرب هذه الروحيّة وتفضي إلى الفشل أو التقصير. ومنها ضرورة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، خصوصاً في المؤسّسات والهيئات الرسميّة في لبنان والعالم العربيّ، حيث لعبت بعض الشخصيّات دوراً فعّالاً ومؤثّراً في ازدهار حركة النشر وتوسّعها، بينما تسبّبت شخصيات اخرى غير مؤهّلة بالانكماش والفشل. ومنها أنّ تردّي الأوضاع السياسيّة في العالم العربي، وربّما بسبب سوء الأنظمة السياسيّة، تحول دون حصول القارئ العربيّ على ما يريد، خصوصاً في البلدان المشهورة بالقراءة والمطالعة (العراق مثلاً). ومنها أنّه بسبب إهمال الدول والدوائر المعنيّة، وغياب القوانين والضوابط الصارمة أو عدم تطبيقها، كما جشع بعض دور النشر وخروجها على القانون والمبادئ الإخلاقية والمهنيّة، ما تزال عمليّات قرصنة الكتب تجري في وضح النهار وعلى نطاق واسع في بعض الدول العربيّة من دون وازع أو رقيب. وهذا طبعاً أمرٌ مؤسف كونه عمليّة سرقة في الأساس، وهو يطيح بجهود وحقوق الكتّاب والمؤلّفين ودور النشر على حدٍّ سواء. إضافة إلى سوء التعامل التجاريّ في سوق الكتاب، إذا كثيراً ما خسر الناشرون اللبنانيّون أموالاً طائلة تُقدّر بالملايين مستحقّة لهم مع مؤسّسات عربية تمنّعت عن تسديدها ودفع الناشر اللبنانيّ الثمن غالياً.

من الأمور اللافتة التي أضاء عليها جرّوس هي مسألة دور الدول في تمويل المشاريع والنشاطات التي تعود بفوائد جمّة على قطاع الكتاب والنشر، والمقارنة بين ما يُبذل من أموال في هذا المجال في دول الخليج على الأخصّ، من الشارقة إلى أبوظبي ودبي والدوحة، والتي ساعدت وساهمت بشكلٍ فعّال في إنماء حركة الكتابة والنشر والمعارض فيها، وبين إهمال الدولة اللبنانيّة، ودول أخرى، بمسؤوليها ومؤسّساتها هذا الجانب المهم، ما فوّت على لبنان الكثير من الفرص لتفعيل دوره وإبرازه في هذا المجال. ما يفاجئ في أخباره ويُحزِن في آنٍ معاً، هو أنّ جائزة "بوكر" للرواية العربيّة عُرِض تنظيمها، أوّل ما عُرِض على لبنان، ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى موازنة بسيطة نسبيّاً، رفض المسؤولون اللبنانيّون تمويلها، فتحوّل تنظميها إذّاك إلى أبوظبي. وكذلك عندما عمل على إحياء ذكرى أدباء المهجر في نيويورك، وتمّ الاتّفاق على البرنامج مع القيّمين على معرض نيويورك وعلى تنظيم أسبوع ثقافي لهذا الموضوع. وقد تطلّب الأمر موازنة لا تتعدّى العشرين ألف دولار أميركيّ، رفضت الدولة اللبنانيّة تقديمها، فأُلغي المشروع، وهو ما عبّر عنه بمرارة وأسف: "غريبٌ أمر عالمنا العربي واللبنانيّ (...) تُنفَق الأموال على مشارع لا فائدة منها، وتُهدَر بدون حساب (...) وعندما يتعلّق الأمر بأمور ثقافيّة أو حضاريّة تجفّ الصناديق ويبدأ التسوّل".

كرّس جرّوس نفسه وجهوده لهذه النشاطات والأعمال الثقافيّة، وغرق فيها على حساب أعماله الخاصّة في توزيع الكتاب ونشره، حتى وجد نفسه في نهاية المطاف في حالة عجز ماليّ وشبه إفلاس، إلى جانب الجحود ونكران الجميل من بعض من تعامل معهم. فقرّر العودة إلى الاهتمام بأعماله هذه لتسديد ديونه وإنقاذ مؤسّسته. وما يكاد يعلن في النهاية عزمه على الانسحاب والتقاعد، حتى يطلعنا أنّه بعد إنجاز كتابه هذا وتسليمه للطباعة ورده اتّصالان، الأوّل "من أهل مدينتي طرابلس، يسألون ما العمل؟" والثاني من زملائه في اتّحاد الناشرين العرب "يدعونني إلى التعاون لتنشيط لجنة العلاقات الدوليّة في الاتّحاد للعمل على الترويج للأدب العربيّ". وكأنّ لا مفرّ له من هذا "الكار"، فيقرّر "أنّ الوقت ما زال مبكّراً للتفكير في التقاعد والراحة".

حكايتي مع الكتاب مجلَّد توثيقيّ غنيّ ومفيد في التأريخ لمرحلة مهمة من حركة النشر في لبنان والعالم العربيّ، استعرض فيه المؤلّف مختلف الأحداث التي طبعت هذه المرحلة، ودعا إلى الاستفادة من نجاحاتها وإخفاقاتها لتصحيح المسارات وتصويب العمل، خصوصاً في مرحلة ما بعد جائحة كورونا، وما بعد ثورة 17 تشرين في لبنان. وبطيبة القلب نفسها، والصدق والعفويّة والاهتمام التي كان يستقبل بها أهل الكتاب، مؤلّفين وقرّاء، في مؤسّسته ويُعنى بهم، يصارحنا من دون مواربة بواقع الكتاب في العالم العربيّ، فيثني ويشجّع حيث يجب، ويشجب وينقد حيث يجب.

لا يبدو ناصر جرّوس آسفاً ولا نادماً على تجربته هذه بالرغم مما اعترضها من مطبّات، بل يبدو، في جردة الحساب التي يجريها، راضياً وسعيداً كونه عمل بموجب مبدأ يؤمن به ويعمل له. هو يؤمن بالخدمة، "خدمة الناس وخدمة المجتمع" لأنّ "الحياة هي الشعور بأنّك لم تمرّ عليها في غفلة". وعليه، عاش هذه المرحلة من حياته في خدمة مدينته طرابلس، ووطنه الصغير لبنان، ووطنه العربيّ، معطياً الأولويّة لهذا الهدف من دون التفكير والسعي إلى التجارة والكسب. ناصر جرّوس الإنسان وضع الإنسان نصب عينيه وهذه أفضل خدمة يرى أنّه قدّمها "خدمت إنسانيّتي من خلال فتح أبواب التواصل الثقافيّ بين الشرق والغرب ليفهم أحدهما الآخر بصورة أفضل". وهل أسمى من هذه الهدف وخدمته؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها