الثلاثاء 2021/05/11

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

باروديا الإعلانات والعمران.. أو فجاجة الصراع الطبقي في مصر

الثلاثاء 2021/05/11
باروديا الإعلانات والعمران.. أو فجاجة الصراع الطبقي في مصر
مشروع "مدينتي" من مجموعة مشاريع طلعت مصطفى العقارية
increase حجم الخط decrease
كحال الكثير من الظواهر في الحياة اليومية المصرية، التي تبدو لوهلة بسيطة، أفضت محاولة تقصى دلالات السيل الهائل من الإعلانات "المضادة" لإعلانات شركتي تطوير عقاري كبيرتين إلى روابط معقدة مع الاقتصاد الكلي والسياسة، ودور المؤسسة العسكرية فيهما، وفي العمق ظهرت ملامح صراع طبقي فج.

ظهرت إعلانات الشركتين؛ المصورة، للمرة الأولى، في رمضان الماضي، وبُثت عبر كل الشاشات الفضائية تقريباً، وكانت الإعلانات "المضادة" قليلة وخافتة، لكنها هذا الموسم شكلت ظاهرة لافتة للغاية، يصعب حصر عددها ونطاقها، وهي في معظمها منفتحة على الكثير من الانشغالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الضمنية، مع وجود نصيب ملحوظ للنقد الأدبي وتاريخه بالضرورة. فاستخدام كلمة "باروديا"، في العنوان والمتن، ليس فذلكة، لكنه يأتي للإشارة إلى ميراث التفاعل المتواصل بين الثقافات. فعندما تُرجم كِتاب أرسطو "فنّ الشّعر" (330 ق.م) إلى السريانيّة ثُمّ إلى العربيّة، استوطنت كلمة التراجيديا لغة الضاد، وخَضَعت للشُّروح والتعليقات، وفُسّرت على أنّها صَنف من أصناف الشِّعر هو المديح. وقد استَعمل ابن سينا اللفظ اليونانيّ "طراغوذيا" نفسه، من دون أن يَفهم دلالته المسرحيّة. ولم يُستعمَل تَعبير "مأساة" للدَّلالة على التراجيديا، إلّا في نهاية القرن التاسع عشر، مع دُخول المَسرح إلى العالَم العربيّ، ومع مُحاولة تصنيف المسرح إلى أنواع. وقد حدث الأمر نفسه مع كلمة "كوميديا"، التي قلما استخدم تعريبها "ملهاة"، بدوره. لهذا كان من الأنسب، هنا، استعمال "باردويا"، بدلاً من "المحاكاة الساخرة"، والتي تعني كل أثر أدبي أو فني يحاكى أسلوب أحد المؤلفين على نحو تهكمي يثير الضحك والسخرية.


موضوعنا، إذاً، هو البحث في الدلالات الفنية والاجتماعية والسياسية لهذا العدد الكبير من المقاطع المصورة "المضادة"، التي تحاكي بسخرية، الإعلانات التسويقية لشركتي تطوير عقاري كبيرتين، يملك النصيب الأعظم من أسهمهما رجُلا الأعمال: هشام طلعت مصطفى ونجيب ساويرس، مع تركيز على تلك العائدة إلى ساويرس. فهناك مقاطع مصورة لمناطق تصنف باعتبارها سكناً لشريحة من الطبقة الوسطى (شبرا)، ومناطق تصنف على أنها سكن عشوائي، أو لفقراء المدن (بولاق، المرج، الباطنية)، وهناك تعليقات لا يتبين بوضوح أين صُوّرت، لكنها تنمّ عن بيئات فقيرة، أو ريفية، وبعضها خارج العاصمة.

هذه هي الظاهرة: إعلانات تروج لتجمعَين سكنيَين (أحدهما في غرب القاهرة، والآخر في شرقها)، وضدها عشرات، وربما مئات، المقاطع المحاكية الساخرة.

في كتابه الشهير، اعتبر أرسطو أن الفن "محاكاة للطبيعة"، وعرَّف التراجيديا بأنها "محاكاة لشخصياتٍ معيَّنة أو أفعال بشرية معينة"، بعدما لاحظ أن الناس "يُمتِّعها أن تُقلد وأن تشاهد تقليداتٍ ناجحة". لم يتطرق أرسطو إلى "الباروديا"، فهي نتاج للثقافة الأوروبية في القرن السابع عشر، حيث يحاكي فنان أو أديب عمل فنان آخر بأسلوب تهكمي ساخر، وغالباً ما يتركز الاستهزاء على ما يعتبره الفنان الأول جوهر عمله بقصد إثارة الضحك، وفي بعض الأحيان بقصد إغاظته والنيل منه.

الذين أطلقوا "باروديا" للنيل من إعلانات شركة ساويرس؛ والتي شارك فيها حشد كبير من نجوم الفن والرياضة، اعتبروا الإعلان حطّاً من كرامتهم، وازدراء لأحيائهم، ونمط عيشهم، فحاولوا تقديم محاكاة ساخرة لإعلاناته، لكنهم في الواقع لم يزدروا إلا عيشهم هم.


الإعلان عن تجمعَين سكنيَين متماثلَين (في غرب القاهرة وشرقها)، يرفض ساكن كل منهما أن يلبي دعوة الآخر على وليمة للأصدقاء، لأن "الدنيا كلها عنده ولا يحتاج شيئاً خارج أسواره". هذا الاكتفاء، والتصريح باستحالة التحرك إلى مكان آخر، مهما كانت مزاياه، قد يعطي معاني أبعد إذا ما استُدعي حدثان: الأول، في شرم الشيخ، نهاية العام 2017، حيث جرت محاججة بين ساويرس والرئيس عبد الفتاح السيسي خلال أعمال مؤتمر اقتصادي، رجل الأعمال انتقد بعض السياسات الاقتصادية وتعامل الدولة مع رجال الأعمال، والرئيس أقر بالكثير من نقده، مستهلاً ردّه المتهافت بقوله: "أنت دائماً مثير للمتاعب يا باشمهندس نجيب". والثاني، حدث في الجمعة قبل الماضية -وكان قد مرّ أسبوعان على بث الإعلانات والباروديا المضادة- حيث انتقد السيسي، بعتاب يقارب الغضب، من يريدون البقاء في القاهرة ويرفضون الذهاب للعاصمة الإدارية: "الناس مصممة على أن القاهرة تبقى كده ونقعد فيها وهي كده والزحمة اللي فيها وهي كده"، ومروجاً للعاصمة البديلة بأنها "أرخص وأكسب". ورغم أنه ردد مجدداً أن افتتاحها سيكون إيذاناً بـ"دولة أخرى، فالأمر ليس مبنى وإنما جوهر ومضمون مع الشكل"، وكشف عن أن ما تقوم به الدولة هناك -أو ما يمكنها فعله- أقل من ربع المستهدف: "إن كل ما يتم عمله بالعاصمة 40 ألف فدان من 175 ألف فدان". هناك، إذاً، 135 ألف فدان لا تجد من يقبل الاستثمار فيها، ولذلك تبدو مرارة الحديث عمّن يريدون البقاء في القاهرة حارة ومؤلمة.

السيسي لم يتقبل، بسهولة، نقد ساويرس اللطيف، المهذب، ووصفه بأنه "مثير للمتاعب"، مع إقراره بصواب كل ما قاله، وها هو ينتقد بحدة من يستثمرون في القاهرة أو في قربها ويمتنعون عن الذهاب حيث يريد. وهكذا يمكن تأويل إعلان ساويرس كـ"باروديا" من مشاريع السيسي العقارية. فمن يتأمل كلمات الإعلان، مثلاً، "حد يسيب الدنيا دي لا لا.. بتهزر بتهزر"، أو "قالك سهلة ولبس البدلة"، قد يراها موجهة لشخص محدد، بهدف السخرية من طلبه المتكرر، وأي شخص يضع كلمات السيسي "هنا أرخص وأكسب" بإزاء كلمات الإعلان "مبسوطة هنا ما تتعبيش نفسك.. مش هسيب مكاني هنا استحالة"، سيفكر أكثر من مرة في احتمال تأويل كهذا.


باروديا الطبقة الوسطى وفقراء المدن والأرياف المصرية، الموجّه إلى طلعت مصطفى وساويرس لم تصب هدفها؛ ذلك أنها تفتقد وعياً طبقياً بديلاً، إنها استجابة اللاوعي لما يمكن أن تكون الرسالة الخفية الغامضة في الإعلان، إنهم إذ تلقوها باعتبارها إزدراء لعيشهم، ردوا بإنفعال متمركز حول الذات، فنال جمهورهم الإغاظة ولم تصل لساويرس وجمهوره، هؤلاء الذين يرون أن النموذج الاقتصادي الذي يريد له السيسي أن يتمكن أقرب للإقطاعيات والولاءات والطاعة الشخصية، ولذلك فهو (ساويرس) وجمهوره المستهدف يحلمون بالبقاء خلف أسوار تجمعاتهم، حفظاً للثروة والذات، وأغلب الظن أن السيسي لن يتركهم ينعمون بذلك. وما تقوم به الدولة تجاه شركة "جهينة" دليل إضافي لما يمكن أن تمضي إليه السلطة في تعقب من يرفض أوامرها.

بقيت مسألة، كاشفة بدورها، ذات صلة بإعلانات الطرق، متصلة بنموذج صراعات رأسمالية  "الإقطاعيات المنضبطة". فقد صدر، أخيراً، قانون إنشاء "الجهاز القومي لتنظيم الإعلانات" بعد سنوات من صراع مكتوم بين شركات الإعلانات (الخاصة) و"الشركة الوطنية لإنشاء وتنمية وإدارة الطرق"، التابعة لـ"جهاز مشروعات الخدمة الوطنية" التابع لوزارة الدفاع (أنشئ العام 1979 كخطوة أولى في اتجاه دخول المؤسسة العسكرية إلى عالم الاقتصاد والأعمال). وقد ظهر هذا الصراع المكتوم إلى العلن، بصورة مدوية، في خريف 2017، حينما نشرت صحف ومواقع إخبارية وفضائيات أخباراً عن "الصراع  الدائر حول الإعلانات على الطريق الدائري"، وبلغ الأمر حد أن شرعت "شعبة الإعلان بغرفة الطباعة والتغليف"، التابعة لاتحاد الصناعات المصرية، في مقاضة الشركة والجهاز، والجهر بأن "منافسة المؤسسة العسكرية بشأن النشاط الاقتصادي حق للشركات"، وتجاوز الحد قدر المعقول حين طرحت في البرلمان شكاوى من محافظات عديدة عن مغالاة الشركة، التي تأسست العام 2004 وباتت تسيطر على الغالبية العظمي من الطرق بين المحافظات وداخلها، في تقدير الرسوم والغرامات على سيارات نقل البضائع بالأخص.

المدهش أن صدور القانون، تزامن مع توسع في استغلال الشركة للطرق التي تديرها وتشرف عليها، ليس في الإعلانات فقط، لكن عبر مشاريع تجارية لمطاعم ومقاهٍ ومحطات وقود وفضاءات مفتوحة، بحيث تعظم دورها الاقتصادي بصورة هائلة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها