الأربعاء 2022/02/23

آخر تحديث: 14:36 (بيروت)

زَوبعة القُبَل

الأربعاء 2022/02/23
increase حجم الخط decrease
يبدو أن هناك إيقاعاً يضبط مثل هذه الزوابع داخل الفنجان فيظل هيجانها ضعيفاً، فلا يفيض ولا يدوم طويلاً. لكن زوبعة القُبل كادت أن تفعل، إذ لامست ما هو أبعد، بوصولها إلى المجالين: السياسي، والاجتماعي وفي مركزه ما أُريد أن يتمثل في ما هو ديني.

بدأ الأمر بجمل ضمن مقابلة تلفزيونية مع المخرج هادي الباجوري، تلقفتها المواقع الخبرية، وطيرتها، ثم استقرت في الفضاء الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي، وخطت الزوبعة خطوة متقدمة بمداخلة الممثل أحمد فلوكس، ثم تعقيب مقتضب من إلهام شاهين، ليستغله فلوكس في مزيد من الإثارة، والابتذال، ثم تدخل الدكتور مبروك عطيه، الأستاذ في جامعة الأزهر، الذي اصطحب معه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ما أكسب المتلازمة بعداً أعمق من الظاهر، وجعل السؤال مستحقاً للتفكير: هل هناك محاكاة مرسومة لمثل هذه الزوابع؟

كان العنوان الأبرز للتغطية الخبرية لحوار الباجوري على هذا النحو: "هادي الباجوري: لا أمانع تقديم ياسمين رئيس مشاهد رومانسية. ويسعدني لقب جوز الممثلة". لكن عناوين أخرى وضعت الحوار في سياق "زوابع" سابقة، مستغلة فائضها، وراغبة في مدها إلى سواها، وكمثال جاء هذا العنوان: "هادي الباجوري: معنديش مشكلة مراتي "ياسمين رئيس" تعمل نفس مشهد مني زكي في (أصحاب ولا أعز).. هي حرة".

وكان أن تلقف أحمد فلوكس المدد، وارتفع به إلى ما يقارب الفيضان، وجاء العنوان الرئيسي هكذا: "ايمتى المهنة تنضف؟ أحمد فلوكس يهاجم الباجوري بعد تصريح المشاهد الرومانسية"، ثم جاء تعقيب إلهام شاهين الذي ترصّده فلوكس، ليبذل كل ما يتيحه قاموسه من مفردات كي يمد في عمر الزوبعة.


في ما كتبه فلوكس، للرد على الباجوري وشاهين، برز أمران: الأول هو استدعاء ما هو ديني "اتق الله.. الشيطان نفسه مش مصدق اللي إحنا بنعمله وبيستغفر ربنا والثاني متصل بالدستور والقانون "مش عاوز أسمع كلمة حريه الفن".

ظهور "البروفيسور" في جامعة الأزهر كان إيذاناً بنقلة نوعية، حملتها العناوين: "مبروك عطيه يفتح النار على الباجوري بعد موافقته على مشاركة زوجته ياسمين رئيس في مشاهد رومانسية"، و"مبروك عطية عن البوس في السينما: اللي يقول لمراته إزني المفروض تطلع عينه". أما استصحابه للسيسي فهو يستند إلى ظهوره "المباشر" السابق، ذلك أن الرئيس كان قد قدم مداخلة في برنامج تلفزيوني، شارك فيه البروفيسور، ووجه له كلاماً عدّه البعض "نقداً" أو "توجيهاً" لكلام سبق أن قاله "العالِم الجليل" في مسألة حق الزوج في ضرب زوجته، وثارت حملة في الفضاء الإلكتروني طالبت بمنع ظهور عطيه، وبالفعل كف عطيه عن الظهور على شاشات الفضائيات، لكنه ظل ملازماً للبث المباشر من بيته.



في العالم الافتراضي نال أحمد فلوكس أكثر مما يستوجبه الأمر، لكن كانت هناك ملاحظات موضوعية قارنت بينه وبين أبيه؛ الممثل فاروق فلوكس، وجرى تذكيره بأدوار قام بأدائها الأب، لا سيما دورَيه في فيلمي: "درب الهوي" (1983)؛ حيث يلعب دور "سكسه"؛ المخنث العامل في أحد بيوت الدعارة، و"الراقصة والسياسي"(1990)؛ حيث يؤدي دور "شفيق ترتر" وهو مشابه إلى حد ما لدوره السابق. ثم كانت هناك "تحليلات" نفسية ارتكزت على تصور انعكاس مثل هذين الدورين في طفولة أحمد، وما يمكن أن يكون قد تعرض له من تنمر من قبل مجايليه وزملاء الدراسة.

حملت الزوبعة، إذن، عنوان "البوس في السينما"، وكان الأمر، بعيداً من كل ما يتصل بشخصيات المشاركين فيها والمستصحبين إليها، تعبيراً عن "معضلة" واقعية متصلة بالنظرة إلى التمثيل، والفن بصفة عامة، حيث تتداخل مجالات وقضايا عديدة، وهذا يستوجب نظرة عامة، وإن تكن متقافزة عبر الزمن.

من نافل القول أن تاريخ السينما العربية (المصرية) يسجل حضوراً للقُبلة منذ البداية. ففيلم بدر لاما حمل عنوان "قبلة في الصحراء" (1927)، وبعض الملصقات الدعائية تضمن صورة فيها ما يسمى بـ"القبلة الفرنسية". فالقبلة في التعريف اللغوي العربي تعني: اللَّثْمَةُ، أَيْ وَضْعُ الشِّفَاهِ عَلَى الْخَدِّ"، أما تلك المتصفة بـ"الفرنسية" فهي المتعلقة بالشفاه وألعاب اللسان.

ومن النافل أيضاً، أن القانون الأول المتعلق بالرقابة على المصنفات الفنية، الذي أصدرته وزارة الداخلية (لائحة التياترات 1911) كان يتعلق بالمسرح، ومُد فعله إلى السينما حال ظهورها، وقد تضمنت اللائحة ضابطين، هما: النظام العام والآداب، وبموجب المادة العاشرة منها فإنه "ممنوع ما كان من المناظر أو التشخيص أو الاجتماعات مخالفًا للنظام العام والآداب، وللبوليس الحقُّ في منع ما كان من هذا القَبِيل وإقفال التياترو عند الاقتضاء". وظل الالتباس ملازماً لتفسيرات المقصود بالتعبيرين. حتى حين سُنّ قانون العقوبات المصري (1937)، متضمناً المفهومين، لم يُبين أو يضع معيارًا محددًا لذلك، ولم يُقدّم أحد تعريفًا قانونيًا إجرائيًا، إلى أن قدّم عبد الرازق السنهوري؛ باعتباره المحرر الرئيس للقانون، توضيحاته وشروحه على القانون المدني، الصادر العام 1948. ورغم اجتهاده بالغ الدقة، إلا أنه بدوره قدَّم مفاهيم قانونية عامة، فقد خلص إلى أن "الآداب، في أمة معينة وفي جيل معين، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية".


ثم أردف، السنهوري: "إن للدين أثر كبير في تكييفه". وينبه السنهوري إلى أن معيار الآداب أو "الناموس الأدبي" ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي، بل هو "معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس. وهو في الوقت ذاته معيار غير ثابت، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة، فهناك أمور كانت تعتبر مخالفة للآداب في ما مضى، كالتأمين على الحياة والوساطة في الزواج والعري، أصبحت الآن ينظر لها نظرة أخرى. وهناك بالعكس أمور أصبحت الآن مخالفة للآداب، كالاسترقاق وإدخال المهربات في بلاد أجنبية، وكانت من قبل غير ذلك". ويحدد السنهوري فكرتين تسودان النظام العام والآداب، وتبعثان فيهما الخصب والمرونة والقابلية للتطور هما: فكرة المعيار وفكرة النسبية.، فـ"معيار النظام العام هو المصلحة العامة، ومعيار الآداب هو الناموس الأدبي، وهما معياران موضوعيان لا ذاتيان". أما النسبية، فـ"لا يمكن تحديد دائرة النظام العام والآداب إلا في أمة معينة، وفي جيل معين".

الجملة الأخيرة "وفي جيل معين" هي موضع بحثنا التالي، فهناك واقعتان فنيتان سبقتا شروح السنهوري، تدعم من الواقع تصوراته وتؤكد أن النسبية هي الناظم الرئيسي، وهو ناظم يصنعه الواقع الذي هو رهن إرادات الجمهور، والواقعتان لهما دلالة في سياقنا هذا.

فحين عرض فيلم "رصاصة في القلب" (مارس 1944)، وهو خامس أفلام محمد عبد الوهاب، هاجم بعض الصحافيين والنقاد الفيلم بعنف، وطالبوا بحذف المشهد الذي يغني فيه عبد الوهاب أغنية "الميّه تروي العطشان"، واعتبروه مخالفًا للآداب؛ لأن عبد الوهاب يظهر فيه عاري الصدر، ثم يقوم بحركات توحي بأنه يتجرد تماماً من ملابسه الداخلية، ثم في نهايته تظهر الفنانة راقية إبراهيم وتراه على هذه الصورة المتخيلة (عارياً تماماً). وتكاثفت "الحملة" على المشهد "غير الأخلاقي"، وطالبت بتنفيذ "لائحة التياترات"، وحذف الأغنية من الفيلم، لكن الجمهور ساند "العري"، وزاد إقباله على الفيلم.

في العام التالي، عُرض فيلم "سلامة"، الذي تغني فيه أم كلثوم أغنية "الفوازير" المعروفة بـ"قوللي ولا تخبيش يا زين"، وهاج صحافيون، وثارت حملة على الأغنية وكلماتها، وفعل الجمهور مع أم كلثوم ما فعله مع عبد الوهاب، وأكثر. كلمات "الفوازير"، خصوصاً مقطع "القبلة"، أثارت عاصفة من الهجوم، أكثر بكثير من عاصفة "شعر صدر عبد الوهاب"، لكن الأغنية فور صدورها، وتسجيلها على أسطوانة أضحت أحد أنجح أغنيات أم كلثوم في أفلامها، وقابلها الجمهور بترحيب بالغ فذاعت شهرتها، ووزعت الأسطوانة توزيعاً قياسياً وقتها، في مصر والبلاد العربية.


من "قبلة في الصحراء" إلى "القبلة" في "سلامة" عزز ذلك الجيل ذائقة "حسية" لافتة، صنعت "ناموساً" اجتماعياً "تحررياً" في النظر إلى الفن، من باب "الآداب"، و"فاعلية" المفاهيم الدينية. الجيل التالي سحب الأمر إلى حد أن الجمهور في قاعات العرض السينمائي كان يتسابق على عدّ القبلات في فيلم "أبي فوق الشجرة" (1968)، ثم حدث ما جرى وصفه بأنه "استعادة وجه مصر الإسلامي"، فكان القرار الوزاري رقم 220 لسنة 1976 بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية، والذي أصدره وزير الثقافة والإعلام عبد المنعم الصاوي. والقانون يعد فلتة خارقة في معايير الرقابة، وكان يسوق ضمن تحولات السادات نحو الانفتاح والحرية والديموقراطية. والقرار مذهل في محدداته، لكن ديباجته كاشفة أكثر، فالرقابة بموجبه تهدف إلى "تأكيد قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية"، ثم بالإضافة إلى المحافظة على الآداب العامة والنظام العام، فإن دور الرقابة "حماية النشء من الانحراف". والفقرتان السابعة والثامنة من القرار كافيتان، فممنوع "إظهار الجسم البشرى عارياً على نحو يتعارض مع المألوف وتقاليد المجتمع وعدم مراعاة ألا تكشف الملابس التى يرتديها الممثلون عن تفاصيل جسمانية تؤدي إلى إحراج المشاهدين أو تتنافى مع المألوف فى المجتمع، أو إبراز الزوايا التى تفصل أعضاء الجسم أو تؤكدها بشكل فاضح"، وممنوع "المشاهد الجنسية المثيرة أو مشاهدة الشذوذ الجنسي والحركات المادية والعبارات التى توحى بما تقدم". فوفقاً للفقرة الأولى ستُمنع "الميه تروي العطشان"، ووفقا للثانية ستمنع أيضاً "ياخدها بدال الواحدة ألوف ولا يخشى للناس ملام".

واتصالاً بفلوكس، الأب والابن، تجدر الإشارة إلى أن "درب الهوى" جرى رفعه من دور العرض بعد أيام من عرضه (1983)، بقرار من وزير الثقافة، استناداً للقرار 220، لكن المحكمة قضت في يناير 1991 بإعادة عرضه.

في محاولة فهم الإضطراد من "قبلة في الصحراء" إلى "درب الهوى"، والنكوص الذي تأسس مع القرار 220، علينا أن نبحث عما حدث في الواقع، وجعل شروحات السنهوري معياراً، إذ ينبه على أهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية التي تؤثر في القانون وروابطه، وبالتالي تصوغ "الناموس العام" كي يتواءم معها لأن "دائرة النظام العام والآداب تتسع أو تضيق تبعاً لهذه التطورات، وطريقة فهم الناس لنظُم عصرهم، وما تواضعوا عليه من آداب، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية".



فخلال نحو عقد كامل (منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين) حدث تحول قيمي كبير للمصريين (غالبيتهم بالطبع) جراء عوامل عديدة، منها الهجرة الكثيفة للعمل في دول الخليج العربي. وهناك، رأى المصري نفسه أمام معضلة كبرى، أي الوفرة المادية الهائلة نتيجة وجود البترول الذي يندر في بلده، فلم يجد تفسيراً لهذا الحدث الجيولوجي سوى "العناية الإلهية" التي حدثت بسبب نمط المعيشة ونظم وطرق الملبس والسلوك والتصورات. وقد عمَّقذلك توجّهٌ سياسي ظاهر نحو "تدين" الخطاب العام، وهذا ما عرف بـ"إعادة وجه مصر الإسلامي الذي شوهته 23 يوليو". وربما يجد مَن يدقق في مواد القرار 220، ما يطابق تعليمات الرقابة في دول الخليج التي كانت تمثل ضغطاً اقتصادياً على صناعة السينما باعتبارها أحد أهم أسواقها. ثم لا يغفل المدقق في المنظور العام أن موجة "التدين/ الأخلاقوية" كانت ظاهرة عالمية في تلك الفترة، شملت موجاتها أنحاء ودولاً ومجتمعات عديدة: شرق أوروبا (بولندا مطلع الثمانينيات، مثلاً)، اميركا اللاتينية، آسيا (الهند، بصورة رئيسية)، وكانت أشبه بالاجتياح في المنطقة العربية، والبلدان "الإسلامية" الملاصقة (إيران المثال الصارخ بطبيعة الحال). وترافق مع ذلك (وتلك المعضلة الكبرى) بداية ما سُمي بالعولمة (الليبرالية الجديدة بالأساس)، والتي اكتسبت قوة هائلة مع ظهور عالم الاتصالات الجديد (الإنترنت، وما تبعه من وسائل وأدوات).

هكذا يمكن القول إن البث المباشر الذي يقدمه مبروك عطية، يمثل النموذج الفاضح لمأزق زوبعة القُبل. ذلك أن القرار 220، كان يدور في عالم "أحادي" بطبيعته، فالسيطرة تبدو شبه تامة على ما يمكن أن يُشاهد، لكن الأداة التي يستخدمها "العالِم الجليل"، وتلك التي يستخدمها من استصحبه، تظهرهما عديمي الجدوى. فبالوسيلة ذاتها، يمكن للمرء أن يرى ما يحلو له، لكن الزوبعة ستظل تسبب صخباً سيعاود الظهور، ففي هذه "المعركة" الممتدة لن يستسلم أحد لديه ذخيرة ما زالت تتمتع بالفاعلية والقبول، وبقايا "الناموس العام".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها