(الرئيس السيسي وأطفال خلال احتفالية "قادرون باختلاف" 5 ديسمبر/كانون أول 2021)
سنترك منير يواصل "الرقص"، ولن نربكه بملاحظتنا "الحبل" المشدود بين كلماته "والكرة الأرضية، وما عليها!!"، وبين كلمات رئيسه "أُسعِد الدنيا بما فيها"، كما لن نتوقف عند الفرق بين "يؤتي" و"يعطي"، وسنورد نص الآية رقم 26 من سورة آل عمران: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
كيف فسر، المفسرون الأشهر، الآية؟ ثم كيف فهمها السيسي، وكيف يستخدمها، ولمن يوجه خطابه؟ وهل يتفق، أم يتعارض، فهم الرئيس، وتصرفه وفق فهمه هذا، مع الدستور المصري، المعدل في 2014؟ هذا هو محل البحث.
***
بحسب المصحف، ترتيب سورة آل عمران هو الثالث، وبحسب ترتيب النزول، تحتل السورة المرتبة الـ (89)، ولذلك فهي مدينة (نزلت في المدينة "يثرب") في الترتيبين. سنعتمد على خمسة تفاسير مشهورة: للطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير والسعدي (مرتبون من الأقدم إلى الأحدث؛ فأولهم توفى في سنة 310 هجريا، الموافق 910 ميلاديا، والأخير في 1376 الموافق 1956).
في ذكر وقت وأسباب نزول الآية هناك اختلافات متباينة: فعن الوقت تذكر قصة عن حفر الخندق (غزوة الخندق في العام الخامس للهجرة)، وتذكر آخرى عقب فتح مكة (العام التاسع)، وبالإجمال هناك روايات خمس، أربع منها مرتبطة بزمن محدد، بصورة ما، أو بوقائع معاصرة لوجود النبي في المدينة، فيذكر أن الآية نزلت حين: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخندق يوم الأحزاب"، أو "لما افتتح مكة ووعد أُمَّته مُلك فارس والروم فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد مُلك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية"، أو "نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران (قصة وفد نجران حدثت في العام التاسع؛ بعد فتح مكة) في قولهم: إن عيسى هو الله"، أو "أن اليهود (دون تحديد متى حدث ذلك) قالوا: والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية".
الرواية الخامسة (يذكرها القرطبي): "قال علي - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن (السورة والآيات) بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرؤكن عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. وقال معاذ بن جبل: احتبست عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فلم أصل معه الجمعة فقال: (يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟) قلت: يا رسول الله، كان ليوحنا بن باريا اليهودي علي أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: (أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟) قلت: نعم . قال: (قل كل يوم قل اللهم مالك الملك- إلى قوله- بغير حساب رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك)".
ونفقه (نفهم) من الروايات الأربع، أن الآية مخصوصة للنبي وأمته، وأنها مرتبطة بوقائع وظروف وملابسات "تاريخية"، أو كما يخلص السعدي في تفسيره للآية أن "الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها، فقال: { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد"، ثم يفصل، السعدي: "حصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع".
ونفقه (نفهم) عن القرطبي أن إطلاق الآية متعلق بالفرد "المؤمن"، وأن في ترديده الآية، والإيمان بها "حل" لأزمات مالية، دنيوية، وسعادة أخروية.
***
يخبط الرئيس السيسي، برفق، مرات على المسند الأيمن للكرسي الذي يجلس عليه، ويقول ما يشبه قول السعدي "حصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى"، متجاهلا "ولا يتنافى". ولأن استدعاء الآية جرى في ذكرى رابعة، فبديهي أن يُفهم أن السيسي يستخدمها "سلاحا" يتنافى مع "الاجتماع وعدم التنازع".
مسألة "المشيئة" محيرة، بالقطع، فهي أما محجوبة، وأما هناك دلائل تنير الوقوف عليها وفهمها، فإذا كانت محجوبة سقطنا في طلاسم لا حصر لها، إذ يمكن لكل إنسان أن يدعي أن أفعاله، بغض النظر عن كونها، هي من "المشيئة"، أما الدلائل فلا حصر لها، بدورها، وستفضي إلى طلاسم، أيضا، فهي (الدلائل) قد تكون في أغلب الأحوال اعتباطية، فالذين اعتصموا في رابعة فعلوا ذلك استنادا إلى "دلائل" تفيدها "يؤتي" الناتجة عن انتخابات عبرت عن "المشيئة"، والباقون منهم على نفس النهج، على نفس الحال، بل إن كل شخص يمكنه أن يستند إلى "دلائله" لفعل ما يراه تعبيرا عن "المشيئة"، ومن يرد أمثلة عليه أن يبدأ بأيام عمر بن الخطاب الأخيرة، فأيام عثمان بن عفان الأخيرة، ثم يتوقف طويلا عند "على وبنوه"، مواصلا، بعد ذلك، المسير عبر "يؤتي" وما تثمره استخدامات مشابهة لاستخدامات السيسي، فهو، إذ كان وزيرا للدفاع؛ عينه الرئيس الراحل محمد مرسي، اعتبر أن "المشيئة" تتجه نحو "ينزع"، فنزع، ثم اعتبر أنها "المشيئة" تتجه نحو "يؤتي"، فذهب يخبط، مصمما على ألا يتيح لـ "ينزع" أي منزع.
اللفظ نفسه: "الملك"، في زمننا الحاضر، قد يتنافى مع "الأسباب الكونية"، فإذ كانت "المشيئة" قد أفضت إلى إجماع الغالبية العظمى من المصريين على دستور 2014 المعدل فإن "اللي جاب السيسي" هم مصريون صوتوا له مرتين في انتخابات "حرة"، و"تنافسية"، ويمكنهم أن "يمشوه" عبر انتخابات مقبلة، أو عبر أي طريق آخر، وكثيرة هي.
استخدام السيسي لجزء من الآية يتنافى أيضاً مع قسمه، فهو بحسب المادة (144) من الدستور أدى مرتين (2014، 2018) اليمين الآتية: "أقسم بالله العظيم على أن أحافظ على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون..."، وقد يكون في قوله "ربنا جبني وهو اللي يمشيني" بعض "الخداع" و"الحنث باليمين"، أولا، لأن الدستور في مادته رقم (4) ينص على أن "السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات"، ومهم "وحده"، هذه، فهي تقول: "يستحيل الجمع بين أي حديث عن "المشيئة" والدولة الحديثة، التي تكون فيها السيادة للشعب"، الإيمان الشخصي شيء، والدستور والقانون أشياء آخرى، فيمكن لصاحب محل عصير قصب أن يخط على واجهة محله نص الآية 26 من آل عمران، لكنه لن يملك منع مفتش الصحة من طلب الإطلاع على بطاقته الصحية التي تؤهل للعمل، وثانيا، يحق للمواطن السيسي أن يخبط على أي كرسي يشاء، ويقول ما يشاء، بما لا يخالف القانون والدستور، لكن السيسي، مرة آخرى للتوكيد، لا يحق له القول "ربنا جبني وهو اللي يمشيني"، ذلك أن الواقع (للأسف) أن "الشعب" هو "اللي جابه" و"الشعب" يستطيع أن "يمشيه"، بأي أسلوب شاء (الانتخابات المقبلة، أو غيرها) ويمكن أيضا، وبحسب المادة (159) إمكانية أن يتم "تمشيته" بطريق مجلس النواب، فمحاكمة، صحيح أنه لم يصدر بعد قانون ينظم هذا الطريق، لكنها إمكانية، وإن تكن ما تزال ناقصة.
***
الحديث عن الدستور "مخجل" في واقع الحال، لكنه حين يتصل بتكرار السيسي لفهمه للآية 26 من آل عمران، ولمقاصدها، يجعل من "رقص" رئيس تحرير الأهرام تعبيرا مبهرا عن "كارثة" محققة، ذلك أن قوله "لا تكفيه السطور القليلة، وإنما يحتاج إلى صفحات، بل إلى مجلدات" يبدو صائبا، لأننا في حاجة لمجلدات تبين كيف تم استخدام الاية 26 من آل عمران، ربما ملايين المرات لتسويق الطغيان والاحتلال والقتل والمجازر، ثم مجلدات آخرى لبيان استحالة الجمع بين الآية وبين "وحده".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها