الإثنين 2022/02/14

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

رِثاء سيد القمني وتَعْرِيَة الإمام الأكبر... بين الصحوة والهزيمة

الإثنين 2022/02/14
رِثاء سيد القمني وتَعْرِيَة الإمام الأكبر... بين الصحوة والهزيمة
سيد القمني
increase حجم الخط decrease
الشجاعة، هي الكلمة المشتركة في نعي ورثاء وتأبين الكاتب سيد القمني. وحضورها الكثيف هذا، يحيل إلى معانٍ متابينة، فهي تبدو وكأنها: اعتذار، تبرير، توطئة لنقد. هذا ضفة. على الأخرى سيل من: الشماتة، الموعظة، القدح البالغ الابتذال.

في منطقة أكثر سطوعاً ودلالة يظهر شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بصفته الأكثر تعبيراً عن "منجز" القمني، فعنده سنجد تلخيصاً كاشفاً للواقع الذي عاش فيه القمني وأصدر مؤلفاته، التي أضحت "تراثا".
***

من الطيب نركز على أمرين: مقالته "التراث والتجديد- مناقشات وردود" (1993)، حين كان يشغل منصب "الأستاذ في قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، جامعة قطر"، والثاني هو مساجلته مع رئيس جامعة القاهرة، محمد عثمان الخشت، في "مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي 27- 28 يناير/ كانون ثان 2020".

في مقالته، يذكر الطيب أن "الكثير من الباحثين يرى أن حرب يونيو 1967 كانت البداية الزمنية التي فجرت هذه القضية، قضية: التساؤل عن العرب، في الماضي والحاضر والمستقبل، وبعض آخر يرى أن المشكلة بدأت بعد احتكاك العرب بالغرب أيام حملة نابليون على مصر، وفيما أعتقد فإن جذور قضية التراث ينبغي أن تعود بداياتها إلى هذا الاحتكاك المباشر بين الشرق والغرب الأوروبي، ففي دائرة هذا التوقيت تظهر القيمة الكبرى للجهود الجبارة المشكورة التي اضطلع بها رواد الفكر الإسلامي قبل 67 بدءا من الأفغاني، وانتهاء بسيد قطب".

ثم يذكر، الطيب، أن "طائفة لا يستهان بها من المفكرين والباحثين وأساتذة الجامعات تراوحت خلفياتها المذهبية من قومية إلى ليبرالية إلى ماركسية إلى علمانية إلى أصولية مادية، فكنا نرى الدعوات الصارخة إلى نفض اليدين جملة وتفصيلا والالتحاق بركب الحضارة الغربية فكراً وسلوكاً، وكنا نرى الدعوة إلى إعادة تفسير التراث وتأويله بما يتفق وأسس فلسفة ماركس ولينين"... يمتنع الطيب عن وصف ما جرى في 1967، يصفها فقط بـ"حرب"، كما لا يتوقف عند التحديد الزمني، سواء أعند هزيمة يونيو أو الحملة الفرنسية (1798)، لكن القارئ يمكنه بسهولة استنتاج أن "القضية" هي قضية "اليقظة" على هزيمة مدوية، مستمرة، ومتفاقمة، وسنرى كيف سيصفها قبل عامين فقط.

وقت وقوع الهزيمة القريبة (5 يونيو 1967) كان سيد القمني ما زال طالباً جامعياً يدرس الفلسفة في جامعة عين شمس، المصرية، وشهدت الجامعات في الأعوام الخمس اللاحقة موجات هائلة من التمرد على السلطة المهزومة، وكان التراث مما تم توجيه الاتهام له بالمسؤولية "التاريخية" عن الهزيمة الممتدة.
***

في اليوم الثاني لمؤتمر الأزهر، قدم رئيس جامعة القاهرة (الخشت) مداخلة تحت عنوان "خطاب ديني جديد وتفكيك الخطاب التقليدي"، فطالب "باستبدال علوم التفسير والفقه وأصول الدين وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل، بعلوم جديدة".

تستدعي مساجلة شيخ الأزهر (الطيب) ورئيس جامعة القاهرة (الخشت) إلى الذهن رئيس أسبق للجامعة، هو صوفي أبو طالب، الذي انتُخب عضواً في مجلس الشعب (البرلمان)، وعقب انتخابه رئيساً للمجلس (4 نوفمبر/ تشرين ثان 1978) أدلى ببيان، جاء فيه: "أنه قد آن الأوان لأعمال نص المادة الثانية من الدستور التي تقضي بأن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، بحيث لا يقتصر الأمر على عدم إصدار تشريعات مخالفة لهذا النص، بل يتعداه إلى مراجعة كل قوانينها السابقة على تاريخ العمل بالدستور وتعديلها بالاعتماد على الشريعة الغراء". وبناء على دعوته تلك وافق المجلس؛ بعد نحو شهر، بأغلبية كاسحة، على تشكيل لجنة خاصة لدراسة الاقتراحات الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية.

وظلت تلك اللجان تعمل على صياغة قوانين عديدة، حتى انتهت مدة المجلس من دون أن تنجز شيئاً مهماً. وطوت الأعوام تلك "المشاريع"، وفي مرات قليلة، تم التذكير بها، داخل المجلس من نواب أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين (دورات: 1984، 1987، 2000)، كما تحدث عنها (أبو طالب) في عدة حورات صحفية، وفي أحدها أوضح أن مشروع تقنين الشريعة بدأت في عهد الرئيس السادات "عندما أراد أن يعيد إلى مصر وجهها الإسلامي الذي تغير بعض الشيء منذ قيام ثورة 23 يوليو".
***

محطتان مهمتان، إذاً، في سياق الحديث عن منجز القمني في ضوء كتابات وأحاديث شيخ الأزهر: الهزيمة والصحوة. فالهزيمة أوجبت المساءلة، والصحوة عمقت ودفعت القضية إلى حدود "الصراع السجالي" الذي يتبدى فيه المناخ الذي تفاعل معه القمني.

في المساجلة مع الخشت يظهر الطيب أكثر وضوحاً ومباشرة وكشفاً. وهو يبدأ بهذه الجملة الدالة "الكلام على التراث كلام عجيب"، وسيختمها بجملة أكثر دلالة، سنذكرها في حينها. وبينهما قال: "هذا التراث الذي نهون من شأنه، اليوم، ونهول في تهوينه، حمل مجموعة من القبائل العربية؛ التي كانت متناحرة، ولا تعرف يميناً من شمال في ظرف ثمانين عاماً إلى أن يضعوا قدمهم في الأندلس وقدمهم الآخرى في الصين، لأنهم كانوا يعرفون، أو وضعوا أيديهم على مواطن القوة في هذا التراث، هذا التراث خلق أمة كاملة".

ويعود الطيب إلى "البداية"، بداية "القضية" كما حددها في مقاله المشار إليه، وتساءل: "قبل أن نلتقي بالحملة الفرنسية، كيف كان العالم الإسلامي يسير؟، ما الذي كان يسيره؟، أليست قوانين الشريعة الإسلامية؟، أليس التراث؟ والفتوحات التي تمت على أيدي هؤلاء العرب الذين لم يكونوا يتعلمون شيئا من فنون القتال، هؤلاء حملهم التراث.. تصوير التراث على أنه شيء يورث الضعف، ويورث التراجع، هذا مزايدة على التراث".

ثم دفع بالرسالة الكاشفة، الحاسمة، عبر نقد عنوان كتاب الخشت "نحو تأسيس عصر ديني جديد"، فتساءل، وأجاب: "هل تجد التراث مطبقاً في حياتنا؟ أنا ما اظن أن تراثنا مطبق! نحن نأكل كما يأكل الأوروبيون؛ بالشوكة والسكين، بالشمال واليمين، نستخدم السيارات الأوروبية والأميركية، نستخدم طرائق الأكل، الجامعات عندنا... أعترف أننا أخفقنا جميعاً في النهضة المطلوبة، نفكر كما يفكر الأوروبيون، نقرر المواد التعليمية، سياستنا أيضاً تخضع للنمط الأوروبي الغربي، نحن يمكن الإسلام عندنا، لن أقول لك التراث، وسأكون (صريحاً) يمكن في مسألة الزواج والطلاق، فقط، والميراث.. أنا كنت أتوقع أن الناس يقولوا: أين التراث مما نحن فيه؟ لأن نحن شخصيتنا انتهت، ما هي شخصيتنا كعرب ومسلمين، لا شيء الآن. حرب التراث هذه وحرب الحداثة هذه شيء مصنوع صنعاً لتفويت الفرص علينا. هناك مكينة خبيثة ملعونة، حتى تدير نمط التفكير". ثم ختم بهذه الجملة: "أرجوكم ابحثوا عن مشكلة غير التراث".

مع هذا السياق تعامل خريج الفلسفة سيد القمني: فبينما كان في العشرين من عمره وقعت الهزيمة (يونيو/ حزيران)، هزيمة أخرى حملت مرارات هزائم قديمة.
***

في 2008 رشحت جمعية "أتليه القاهرة" سيد القمني لنيل جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، وفاز بها، كما فاز بها حسن حنفي، أيضاً، وكان أن أقامت مجموعة من المصريين (أبرزهم: المحامي "الشيخ" يوسف البدري، والمحامي نبيل الوحش، والمحامي ثروت الخرباوي) دعويين أمام القضاء الإداري، يطالبون فيهما بإلزام شيخ الأزهر بتقديم ما تحت يد مجمع البحوث الإسلامية من تقارير حول كتابات المطعون في منحهما الجائزة (حنفي والقمني)، ورأي المجمع أفكار سيد القمني الواردة في مقالاته وأحاديثه في حق الإسلام والمسلمين والتي لم يسبق له أن أبدى الرأي فيها، وسحب الجائزة منهما. وبدأت المحكمة في نظر القضتين في يوليو/تموز 2009، وظلت تتداولها لثلاث سنوات، وقبل أسبوع فقط من إعلان نتائج التصويت في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، التي كانت تجري بين المرشحين: محمد مرسي، مرشح حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وبين أحمد شفيق، رئيس الوزراء السابق (آخر رئيس وزراء في عهد مبارك) قضت المحكمة برفض الدعويين، التي كان المدعون قد اتهموا فهما القمني وحنفي بـ"إهانة الإسلام والرسالات السماوية الآخرى ونفي النبوة والوحي وإنكار معلوم من الدين بالضرورة وتقديم قراءة مشوهة للتاريخ الإسلامي"، وأشارت المحكمة إلى أن كتاب القمني "رب الزمان" تم ضبطه سنة 1997، وقد اتهم الكاتب بإزدراء الدين الإسلامي وتم حفظ القضية إدارياً. وذكرت المحكمة في حيثيات حكمها أن القمني "لم يتعمد التعدي على الدين أو امتهانه أو انتهاك حرمته والحط من قدره أو الازدراء به"، وأن المحكمة قرأت كتاب القمني "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية"، وأنه "لم يثبت للمحكمة أن المؤلف تعرض للرسول الأكرم بأية إهانة"، كما أشارت إلى أن رأي مجمع البحوث الإسلامية، التابع لمشيخة الأزهر، عن مؤلفات سيد القمني قد انتهى إلى منع كتب الكاتب من التداول، وقررت المحكمة أن قرار المنع قد "تأسس على اقتطاع عبارات من الكتب التي أعدت التقارير عنها، ورتب معد كل تقرير النتيجة التي خلص إليها على تلك العبارات المنتزعة من سياقاتها التي وردت فيها، ومن المعلوم أن اجتزاء العبارة أو القول تضيع معه أمانة النقل ويهدر سلامة القصد ويؤدي إلى سقم الفهم".
***

في نعي ورثاء القمني الكثير مما يجب التطرق إليه، ففيه يظهر قدر كبير من الموضوعية، فهناك إشادة بالشجاعة في ظروف كتلك التي جرى الإشارة إليها، ظروف الموجة العاتية من "إعادة الوجه الإسلامي إلى مصر"؛ التي عبر عنها صوفي أبو طالب، وعبر عنها رثاء يصف "الضربة الأولى للصحوة الناهضة وهي تكتسح البلاد والعباد: كل شارع وميكروباص وجامعة وبنك ومترو وبيت، بشعاراتها المجلجلة وأزيائها المرطرطة في الشوارع، فمن المتوقع أنه يكون فيه ردود أفعال متشنجة على أنقاض عالم يتداعى تحت أقدام الغزاة القادمين من المجهول"، استحضار هذه الأجواء يظهر (يبرر) لماذا كانت كتابات القمني سجالية عالية النبرة.

هناك أيضاً تنبيه إلى أن الشجاعة والاستقامة الشخصية لا يمكن أن تعوض استقامة منهجية تفتقدها كتابات القمني، التي كانت متخمة بـ"الاجتزاء، والاختزال، والقفز على خلاصات السابقين عليه وليّ عنقها بشكل يخلي (يجعل) أعماله مشوشة ومربكة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها