الجمعة 2021/03/12

آخر تحديث: 17:44 (بيروت)

تأنيث المُصاب.. أو سنة أولى كورونا

الجمعة 2021/03/12
تأنيث المُصاب.. أو سنة أولى كورونا
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
إن كان لا بد من "إحياء" الذكرة السنوية الأولى لكورونا، فإن المناسبة تحل في مثل هذه الأيام، رغم أن الفيروس كان قد ولد، في ووهان، قبل آذار 2020 ببضعة أشهر. لكن ولادة الفيروس، حدث للروزنامة. أما الذاكرة الحقّ، فللمَحزَنة العالمية التي بدأت قبل سنة بالضبط مع إجراءات الإقفال العام والحجر المنزلي. من الآن، يبدأ تأريخ عزلاتنا الكبرى والصغرى. إحباطات وقلق، غضب وخوف، من كل شيء وعلى كل شيء. نؤرخ مآسينا الفردية والجماعية التي ربما لم تكن الجائحة السبب المؤسّس لها كلها، لكنها جعلتها تتخطى طاقاتنا، ومع ذلك لا خيار سوى التكيّف والمقاومة، أنّى استطعنا، ولا مفر من لعنة الاستطاعة القسرية، على غرار "سيزيف". والفاتورة تكبر وتطول، الحب يُمتحَن، الروح تنكمش، الذنب والعجز يزاوجان السخط واليأس.. ولا تُعرف وِجهة لهذا التهجين الشعوري.

وإن كان للمُصاب جنس، فهو، بلا شك، مؤنث. الكل مرهق، والموت عميم. الكل ما زال يعاني: كبار السن، الأطفال، الفئات العمرية المنتجة، والرجال ليسوا استثناء. لكن النساء هن الظهور المحنية تحت الثقل الخرافي المتدحرج على أجساد البشر، والفوارق تضمحل بين عالم أول.. وعاشر. ما عاد الأمر يتعلق بـ"موضة" النسوية، والمقاربات الجندرية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تتباهى الدول المتقدمة بإيلائها أهمية، في النقاش العام والقوانين والسياسات والمشاريع الممولة. هذه كلها تسقط أمام صورة كورونية قاتمة، تبدو النساء محورها وموضوعها الأساس، لا سيما على مستوى العائلة المصغرة، فيما لا استجابات عملية تُذكَر حتى الآن لنزع صفة التأنيث عن معظم المُصاب الكوني، والذي باتت تعترف به صراحة مؤسسات دولية أطلقت مؤخراً مصطلح "الركود المؤنث" (shecession).

العائلة، استمرارها الممكن بالحد الأدنى من الأمان والتوازن الهش، حين تتعذر سعادتها ورفاهها، بات وزناً إضافي على أكتاف النساء، عَشرُ كُرات إضافية في بهلوانيات حضورها كأمّ وزوجة وعاملة، كفرد مكافح لإثبات الكثير لكثيرين، وبينهم ذاتها. 

وإن كان الركود هذا، اقتصادي المعنى أولاً، إلا أنه أيضاً النكوص الثقافي والاجتماعي الذي يوشك أن يعيد العالم برمّته إلى خمسينيات القرن العشرين، حينما كان للمنزل مُعيل ذَكَر ومدبّرة/مربّية أنثى، أي أنه يعيد الحالة الأُسرية إلى أفكار ومفاهيم وممارسات ظننّا أننا تجاوزناها إلى غير رجعة. والمفارقة أننا، بهذه الضربة على رأس حرية المرأة واستقلاليتها وتمكّنها، وفقط بالضربة، نتساوى بالنسبة والتناسب، مع مجتمعات ريادية.

تفيد أحدث الأرقام بأنه في 17 من أصل الدول الـ24 الأغنى في العالم، حيث تصاعدت نسب البطالة خلال العام المنصرم، النساء هن على الأرجح مَن خسر الوظائف. وانغمست النساء في الأعمال الرعائية (لا سيما العناية بالأولاد) بزيادة سبع ساعات أسبوعياً مقارنة مع الرجال، وهو ما دفع كثيرات إلى ترك وظائفهن. حينما يضطر زوجان/شريكان لحماية وظيفة أحدهما، فالقرار يتخذ غالباً لمصلحة الرجل، إما لأسباب عقلانية وحسابية، أو على خلفيات ثقافية. الأعمال "النسائية"، كالتسويق والتواصل، أكثر عرضة للخسارة من القطاعات ذات الغالبية الرجالية من قبيل الموارد المالية. وبعض الدول التي لطالما نظرنا إليها بعَين الدهشة والحسد تخشى ألا تبدأ المساواة الجندرية في العمل، بالتعافي، قبل العام 2022، بل وعليها أن تضاعف سرعتها لتعويض الخسائر بحلول العام 2030. وتصاب العين نفسها بالعمى إن نظرت إلى لبنان وحاولت إحصاء الخسائر التي لا يلوح في الأفق موعد لتعويض بعضها، أو حتى إيقافها عن حدّ. الخسائر التي فاقمتها كورونا، لكنها في الأصل صنيعة المنظومة المتهالكة الفاسدة، ولا مَن يقيم لنا قائمة إلا بزنودنا وبالنزر اليسير.

الفجوة الجندرية أصلاً كارثية في لبنان الذي يحل في المرتبة 139 من أصل 153 دولة مشاركة في أحدث الإحصائيات. والنساء غالباً أكثر من نصف القوى العاملة في الخطوط الأمامية لمواجهة الجائحة، فهن مثلاً 80% من الجسم التمريضي اللبناني، والعدل يجافيهن.

حالات اللاجئين والمهاجرين، تزيد المشهدَ اللبناني العام سوداوية. فإلى جانب المعلوم من تمييز وقهر وفقر، فإن فرص اللاجئة السورية في إيجاد عمل تقل عن اللاجئ السوري بمعدل ست مرات، وبأجر قلما يتجاوز نصف ما يتقاضاه الرجل. ووضع العاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات لا يقل كارثية، ما أفضى إلى حالات انتحار، بسبب ظروف العمل، الإيذاء الجسدي والمعنوي، وامتناع أرباب العمل عن دفع الأجور أو استسهالهم خفضها، في البلد الذي فقدت عملته الوطنية 80% من قيمتها.

اضطلاع النساء في لبنان بالأعمال الرعائية والمنزلية نسبته قبل الجائحة 90%، والرجال 50%، وزادته الجائحة بنسبة 81% للنساء و64% للرجال. هذه أرقام مكللة بالاكتئاب والصراعات. حينما تنحصر الحياة في إدارة كارثة مستمرة منذ سنة، ويصبح البيت سجناً، والأولاد خارج المدارس تحدياً محسوباً بالساعات، والأهل والأصدقاء صورة ناطقة في شاشة، والمرأة تأخذ هذا كلها بصدرها، مع وظيفتها أو من دونها.. فهذا ما يحيل العَيش إلى مجرد أنفاس تُشهق وتُزفر بلا معنى.. إلى أن يحل العنف.

العنف الأسري ازدادت نسبته، في السويد كما في نيجيريا. وفي لبنان، إذا أخذنا، عشوائياً، شهر نيسان/ابريل 2020، فقد تلقت خلاله منظمة "أبعاد" 230 اتصالاً من نساء تعرضن لعنف أسري، وهو ضعف الرقم المسجل خلال الشهر نفسه من العام 2019. الخط الساخن لقوى الأمن الداخلي تلقى، خلال 2020، 1468 شكوى عنف أسري، في مقابل 747 في 2019، علماً أن نحو 60% فقط من النساء يلجأن عادة للإبلاغ. والقتل لم يعد خبراً مستهجناً، ولا الطلاق المُستتبع بقوانين أحوال شخصية متخلفة.

كل هذا في سنة أولى سجن، والحُكم لم ينتهِ. الحركات النسوية، حول العالم، مدعوّة لتحديث أجندات عملها، ربما بالعودة في أرشيفها سبعين عاماً إلى الوراء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها