الجمعة 2021/12/03

آخر تحديث: 18:35 (بيروت)

وزارة متنكّرة ونقابة محتلّة

الجمعة 2021/12/03
وزارة متنكّرة ونقابة محتلّة
increase حجم الخط decrease
ما زالت السلطة، بالقوى والأحزاب المهيمنة، قادرة على التجديد لنفسها، كما هي، ومن دون تكبّد عناء إعادة إنتاج خطابها أو نهجها، ومن دون تعديلات أو تجميل. ما زال "السيستم" قادراً على البقاء والاستمرار وإيجاد مخارج لمآزقه، ولو كانت مخارج موضعية وسطحية لا ترقى إلى معاناة اللبنانيين وإراداتهم الفعلية، لكنها على تماس مع "معاناة" العُصبة الحاكمة وهواجسها وأجنداتها الداخلية والخارجية. الأرجح أن الانتخابات النيابية العتيدة، إن أُجريت، ستبرهن ذلك. لكن الصورة تكثّفت وبدت فاقعة، خلال اليومين الماضيين، وهذه المرة في إطار واحد من القطاعات القليلة التي ما زالت تتمتع بالمعنى في بلد منكوب بقطاعاته كافة تقريباً.


ففي البلد حيث يُغتال صحافيون وأصحاب رأي، ويُهدَّدون، ويُضيَّق عليهم، تُهدر دماؤهم، ويُمطَرون بالدعاوى القضائية، ويُصرفون تعسفاً أو بداعي الإفلاس، ويشيخون ويمرضون وحيدين، بلا أي مساندة قانونية أو تأمينات مُمأسسة.. في هذا البلد، رغم كل شيء، وعلى هنّات كثيرة وتَبَعيات وارتهانات، ما زال في لبنان صحافة أكثر مما فيه من دواء وأغذية وعُملة. ما زال هناك مَن ينتقد ويستقصي ويفضح، وذلك لأسباب عديدة ليس هنا مجال استعراضها، لكن المؤكد أنها بلا منّة من أي سلطة.

لعلها المفارقة اللبنانية الأبرز. البلد الجائع، المريض، المفلس،.. إعلامه (بعضه المُعتبَر وبعض أفراده) أكثر حيوية منه. والمفارقة التي تقابل المفارقة في المرآة: في البلد المتمتع بهذه الصحافة المتمايزة، ضمن محيط إقليمي وعربي كلنا يدركه، ما زالت وزارة الإعلام حيّة وتركل، بل وما زالت سياسية على شاكلة الروتين السياسي المتفشي.. كما تستمر القوى المستأثرة بالسلطة، في الدولة والأمن والاقتصاد، في احتلال نقابة المحررين (الصحافيين) منذ أكثر من خمسين عاماً. 

والحال إن وزير الإعلام، جورج قرداحي، ألقى اليوم، خطاب استقالة، ضَمَّنه – كمُعجب وفيّ ببشار الأسد وفلاديمير بوتين وحسن نصر الله – محاضرة في معنى السيادة والاستقلال والديموقراطية. إضافة إلى هالة نور أحاط بها حسن نواياه و"تضحيته" بنفسه من أجل بلده ومواطنيه في الداخل والخارج. لم يتحرّج من القول بصراحة إنه لم يتخذ القرار إلا بعد التشاور مع "الزعيم" سليمان فرنجية و"الحلفاء" (حزب الله)، وإن أحال القرار في النهاية إلى قناعته وإرادته الحرة. بدا ممثلاً صارخاً للسلطة الحالية التي ما زالت تتصرف وكأنها تمتلك القدرة على التفاوض والمناورة، ولعلها كذلك فعلاً، إنما فقط لأنها تأخذ البلد – بناسِه – رهينة. هي السلطة التي ما زالت تتخذ "قرارات" باعتبارها تجترح حلولاً، وتفرض هذا الوهمَ الذي لا يقنع أحداً، ولا حتى أقطاب الحُكم أنفسهم، في حين أنها لا تفعل سوى ضخّ جرعات من البنج، الشحيح في المستشفيات وغرف الجراحة، في أوصال الأزمة تلو الأخرى، لتشتري أياماً زائدة في عمرها.

وزارة الإعلام، يفترض أن مشروع إلغائها موضوع على الطاولة منذ سنوات، ما يجعلها حالياً منتحلة صفة. متنكّرة في زي مهنةٍ ما عادت، في أي من بقاع الأرض المحترمة، تحتاج وزارة. وفَرِح بكرسيّها قرداحي، إلى درجة أنه لم يأبه كثيراً لفكرة أنه، منذ أن تولاها، كان كل تصريح له بسَقطَة، وبكل مقاييس المهنة والحريات. وزارة ما زالت تُعتبر مؤهلة للتعاطي في ملف قانون الإعلام الجديد. تمنح التراخيص. منابرها لتسويق العهود و/أو الحكومات المتتالية، بحسب درجة الانسجام بين الرؤساء المتزامنين ومدى نفوذ كل منهم داخلها. وفي مؤسساتها تعيينات وتجاذبات المحاصصات، ككل مَرافق الدولة المهترئة. وقد يعنّ لوزيرها(تها) لعب دور الأستذة في "الإعلام الهادف" على بقية صحافيي البلد.

أما في انتخابات نقابة المحررين، فاحتفل المجلس النقابي بانتخابات التمديد له، بكل ما للكلمة من معنى. "عرس الديموقراطية"، قيل، حيث لا حاجة إلى تلاعب أو تزوير، فالمنتسبون الموالون يتم إحصاؤهم "بالرأس"، كلما فُتح جدول الانتساب على غرار ما تُفتح مغارة علي بابا لمن يمتلك كلمة السر، ولا يهم إن كان صحافياً فعلياً أم لا، مؤهلاً قانونياً للاقتراع أم لا. النقابة التي ما زال ثلاثة أرباع الصحافيين العاملين في لبنان، خارجها، خلافاً لكل الأعراف والقيم النقابية حول العالم، لم يجدها المُنتهكةُ حقوقُهم إلى جانبهم، إلا نادراً، وببيانات رفع عتب، لا تقدّم ولا تؤخر. "النقابة تنتفض" في نقابات أخرى، من داخل الجسم النقابي، فيما الصحافيون ما زالوا خارج نقابتهم، لكن انتفاضتهم بدأت تحفر أسوار وَرَثَة ملحم كرم. هذه النقابة الوحيدة ربما، بين سائر نقابات المهن الحرة في لبنان، التي تلفظ أهلها، وتجري انتخابات وفرز أصوات بالأوراق والأقلام ويدوياً. نظام داخلي بالٍ. لا اهتمام بقانون جديد للإعلام إلا بما يخدم نفوذاً ومنافع ضيقة. ومعدّل أعمار الأعضاء نحو ستين عاماً، في تناقض مدوٍّ مع ديموغرافيا القوى الصحافية الفاعلة على الأرض، صانعة المشهد الإعلامي الحقيقية. 

في هذه النقابة التي خاض انتخاباتها هذا العام، مستقلون/ات، لا سيما من الشباب والنساء، ثمة مَن سخر مِن مرشحين لا يدينون بالولاء لمنظومة البلد المصغّرة هنا في منظومة نقابية، وشتمهم في أخلاقهم/ن. زملاء فعلوا ذلك، مَن يُسمَّون بالزملاء، في مهنة الدفاع عن الحقوق وقيم الديموقراطية والقانون والمؤسسات، الشفافية وتداول السلطة. وثمة مَن تهجّم على المناوئين وكاد يستخدم قبضته. وخلال هتافات الاحتجاج على إعلان نتيجةٍ بدت أشبه بالمتوقع في ظِلّ أنظمة "الأبد" و"الرئيس الخالد"، ثمة من انبرى للتشويش على الهتاف بالتصفيق للنقيب الباقي، أو رشّ المعقّم على الهتّافين. و"الأحلى" من هؤلاء، أصرَحُهُم، أي ذاك الذي توجه إلى زميلة بالقول: "لن تدخلوا النقابة إلا حين نقرر نحن ذلك".... مبروك، إذن. تستحقها السلطة بجدارة الديك الصائح بانتصاراته فوق تلّة خراب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها