الخميس 2021/12/02

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

بيروت بين شاوول وأدونيس وحسن نصرالله

الخميس 2021/12/02
بيروت بين شاوول وأدونيس وحسن نصرالله
غزوة "حزب الله" لبيروت في 7 ايار 2008
increase حجم الخط decrease
صرت أكره مدينة بيروت، لا أبالي بكل الشتائم التي ستنهال عليّ بسبب هذا التصريح الوقح، إذ مع تحوّل المكان الأقرب إلى القلب إلى شتيمة يومية، تسقط كل الشتائم الأخرى.لا أبالي بأي شيء ولا أبالي بأي أحد، فالمكان في بعض متونه هو ناسه وضمنهم أنا، أقول هذه الكلمة الأخيرة مولياً بيروت ظهري ووجهي نحو البحر.

بداية العام 2007 شرعت بكتابة "أورويل في الضاحية الجنوبية"، سألت في صفحتها الأولى السؤال التالي: لماذا يكره الله المدن؟!
نُشرتْ الرواية في العام 2017، وكان الجواب قد اتضح أمامي. مثل غيري من ناس بيروت وروّادها، تحوّلتُ آنذاك إلى ما يشبه الغيمة التي تشكلها الريح صدفة، نسير هنا، نتسكع هناك، بغير وجهة ولا هداية. كنت أظن أن لا "خارج" خارج مدينة بيروت، فإذا ببيروت هي "الخارج" بإطلاق. أن يصير المكان إهانة للعين واضمحلالاً متدرجاً للحياة، فمقته عندئذ هو بمثابة بيان وجداني، مانيفستو واضح وخطاب لا سطوة لضبطه لمشاعر مضطربة.

لا مكان لنا في هذه المدينة، فنحن في أحسن الأحوال أثر يضمحل، ظل لتاريخ متخيّل، مسودة نص لم يُكتب باتّقان وأشباح تتحرى رائحة الشجر في شارع الحمرا. الهواء هنا صمغ الرئتين والرائحة تشي بجثة تحفر عميقاً في وجودنا.
لست أدري، ربما هو "مزاج المدن"، إذا أردنا أن نستعير هذا العنوان من الراحلة مي غصوب، أن تكون المدينة مقبرة ضخمة.

إن المدينة في متنها الأعم هي العالم مركّزاً في حيّز بعينه، لكن العالم ههنا غيهب ضبابي، قرية تخوضها نمال نهمة، أما الذكريات فستظل غبار سنين أدبرت على غفلة منا. حتى الأمس القريب، كان أمل يلوح بخفر، لكن المدينة وقد أضحت يباباً، صار أملنا في ساحاتها كأمل الجبناء ببطولة زائفة.
إنه الحضيض الذي يشفي غليله من بيروت بحضيض أعمق، يأخذ بيدنا ويربت فوق أكتافنا متشاوفاً.

أواخر العام 2019 حزت الموافقة من دائرة الهجرة الكندية بعد طول انتظار، لقيتني فجأة أمزق كل المستندات المطلوبة على وقع "كلّن يعني كلّن" و"الهيلا هو" و"بدنا نغيّر النظام". يا لهذه النوستالجيا العصابية التي تشدّنا صوب هذا الزقاق الضيق، الزاروب المعتم الذي يدعى بيروت. "عتاري" مدينتنا لا تعدو أن تكون رصيفاً جانبياً في استراتيجيات الصبر والبصيرة العابرة لحدود الأرض والسماء.

في 31 تشرين الأول 2003، ألقى الشاعر أدونيس في "مسرح المدينة" في بيروت، محاضرة بعنوان "بيروت أهي مدينة أم أنها مجرد اسم تاريخي". أثارت محاضرة أدونيس تلك حفيظة الشاعر بول شاوول، الذي ردّ على أدونيس بمقال في جريدة "المستقبل"، بتاريخ 8 تشرين التاني 2003، بعلو النبرة وعنفها. المفارقة أن كلاً من الشاعرين محق في ما قال حول هذا المكان المنتفخ، المتواري، المنطفىء، المشتعل، المهلهل، الحربوق والمتفصّد بعرق الهزيمة والحيرة. كل من الشاعرين، المتكىء على عصا النبوءة الشعرية، كان محقاً في بعض قوله، لكن رقصهما فوق الصفيح المتّقد كان بليداً إلى حد العمى. للأسف، فالقدر لم ينظّم انتشار حقيقتهما المتشابكة، وبقي السؤال: لماذا يكره الله المدن؟!

إن الجواب الذي كان يتحيّن الإنقضاض، واتته الفرصة على طبق من صفيح "المقاومة". كل من الشاعرين الحزينين محق، لكن اندفاعة الشاب المستبسل، فائض القوة والبأس، والذي خرج من قمقمه غاضباً، ألغى كل الحقائق، العجوز منها والشابة، وفرض خطآه كحقيقة مطلقة.

لا شِعر بعد أيار 2008. فـ"7 أيار هو يوم مجيد من أيام المقاومة". هي قصيدة بيروت الأخيرة. إنما، وعلى الرغم من هذه القصيدة/النعوة، ثمة في بيروت ما لا يزال جميلاً. فكما جاء في كتاب عنوانه "مدينة كان اسمها بيروت": حتى جنون الأنقاض (...) يمكن أن يكون جميلاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها