الجمعة 2021/10/22

آخر تحديث: 18:38 (بيروت)

.. إلا سُمعة الوطن!

الجمعة 2021/10/22
.. إلا سُمعة الوطن!
السلطة لا تخشى ترنّحها.. لكن مشاعرها سهلة الخدش (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لا مصادفة في أن تهمة من قبيل "الإساءة إلى سمعة الوطن" تبدو "امتيازاً" حصرياً للدول الأكثر تخلفاً والأقل ديموقراطية. بل لعلها الدليل الدامغ على أننا نعيش في واحدة من تلك المحظيات، ولنا في محيطنا العامر أمثلة مضيئة.

فقبل أن يُرمى فيلم "ريش" للمخرج المصري عمر الزهيري بهذه التهمة، رُمي بها فنانون وناشطون وكتّاب مصريون كثر، بعضهم تكبّد بسببها أثماناً باهظة، ليست أقلّها الحملات الإعلامية والتضييق عليهم في قطاعاتهم، وليس أكبرها السجن أو المنفى.

في سوريا نسمع التهمة ذاتها، إضافة إلى تحفة "التسبب في وهن نفسية الأمة" و"خدمة الأعداء الكَوْنيين". وذلك كلما فتح أحدهم فمه، بنَقد بسيط و"ودّي" للأوضاع المعيشية المزرية. ولو حتى بلا رغبة في الاصطفاف مع المعارضة والثورة. ولو بتفادي الكلام المباشر في السياسة والحريات وحقوق الإنسان، ومُجانبة التصويب على رأس النظام الأسدي. فمَن يوهن نفسية المجتمع (وللمجتمع كرُزمة بطاطا بشرية نفسية واحدة)، سيلقى قصاصاً أكيداً، بالقانون ومن دونه، بالشبيحة والجيوش الالكترونية، وبعناصر الأمن والمَحاكم التي – للمفارقة – تصبح فاعلة فجأة.

وقد بدأ اللبنانيون يتعرفون، من قرب، على معنى أن لبلدهم سمعةً، وأنهم مَن يغبّرها بمجرد الكلام عنها، منذ بدء القطار الأفعواني للكارثة المالية والاجتماعية، انحداره الجنوني. في البداية، كان مجرد الكتابة في فايسبوك مثلا،ً عن أنه لا دولارات في البلد، أو توقيع مقال يتنبأ بالمزيد من تداعي سعر صرف الليرة، أو حتى تسليط الضوء عبر التجارب الشخصية الحقيقية على الحِيَل المافيوية للمصارف والمصرف المركزي والطبقة المتحكمة، يُفضي إلى استدعاء للتحقيق بتهمة "الإساءة إلى السمعة المالية للبنان"... "السمعة المالية".. العبارة في حد ذاتها الآن مثيرة لضحك هستيري يقارب البكاء.

وإن أمكن الاستغراق في كلام مشابه عن العراق وفلسطين والأردن وسواها من الدول التي نتشارك وإياها وجودنا السعيد في هذه البقعة من العالم، فإن السّمات العامة لخطاب "السمعة" إياه قلما تتغير.

فسُمعة الوطن أو الأمة، وقبل أي تدقيق في ما إذا كانت هذه البلاد فعلاً أوطاناً ناجزة – ناهيك عن أمم! – هي السمعة التي تقرر ملامحها السلطة، دون المجتمع بمختلف قواه الشعبية والمدنية وألسنته الإبداعية. السلطة كقوة محضة، مع تفاوت المعنى وتطبيقاته من مستنقع إلى آخر. والأرجح أنها دائماً السلطة التي أضحت كذلك بإمكانات قمعية أو عسكرية، طائفية أو متلاعبة فاسدة، أو خلطة من هذا كله. وهي السلطة الباقية أيضاً، أو أقلّه المُخططة لبقائها، إن لم يكن "إلى الأبد" فلمدّة قادرة على منافسة الخلود. والإساءة إلى سمعة الكيانات المحكومة بمثل هذه السلطات، لا تنال – معاذ الله – من الحكّام المحصنين، القابضين على عِصمَتنا ولا لا طلاق لنا منهم. لكنها قد تؤذي أسماعهم المرهفة، تخدش مشاعرهم الرقيقة، وهذا ما لا طاقة لهم أو لنا على احتماله.

وسُمعة الوطن هذه، على ما يبدو ويُستشف، أقرب ما تكون إلى الأنوثة في المعيار الذكوري. تذكّر، في الوعي واللاوعي، بـ"شَرَف" البنت الذي، مثل العود الكبريت، يكفي أن يحترق مرة واحدة لينتهي ويُنهي معه مستقبل صاحبته. وهو ما يخشاه الآباء الذين يظللوننا كأقدارنا ولا نختارهم، وإن توهمنا أننا ننتخبهم ونوليهم أمورنا بملء إراداتنا الحرة. والدستور الذكوري البطريركي لاستعارة الأنوثة، ههنا، يتكفل أيضاً بالإجابة المُقنِعة والمؤثّرة، على سؤال من نوع: لماذا لا نسمع بقضايا السّمعة الوطنية في النروج أو كندا أو فرنسا؟.. فتلك بلاد لا تملك ما نملك من قِيَم وأخلاق.

الفقر ليس عيباً نخشى منه على صورتنا، أمام أنفسنا قبل الغريب. ولا الفساد وفضائح تبديد الأموال العامة والخاصة. ولا تساقط قطاعات التعليم والطبابة والضمانات الاجتماعية، وسجون الرأي، وقوانين الحُواة والعصبيات المتوارثة منذ قرون. لكن العيب، كل العيب، أن نتحدث عن هذا كله، أن نعترف به في ما بيننا، والأنكى، على منصات خارج الحدود المقفلة علينا نحن الرهائن.

في لبنان، ليس عيباً، ولا إساءة "للسمعة المالية اللبنانية" أن التدقيق المالي الجنائي الأول مُني بالفشل، وأن الطرف اللبناني الرسمي/المصرفي الممتنع عن تسليم مستندات كاملة أو دقيقة، هو السبب، فسُحِبت من الخزينة (أي من أموالنا المُصادرة) غرامة 150 ألف دولار. ليس عيباً أن فريق صندوق النقد الدولي، وفي جولة المفاوضات الأولى قبل تجميدها، فَهِم وأظهر بوضوح كيف أن الطرف اللبناني الرسمي/المصرفي خبأ معطيات وتلاعب بأخرى كدكانجي وضيع. مثلما أنه لا عيب في أن العالم بأسره يتابع مسلسل العصابات التي تحكمنا لإسقاط التحقيق في انفجار مرفأ بيروت. بل العيب، والإساءة التي تطعن صورة لبنان وتؤخّر قيامته من رماده، يكمنان ويتكثّفان ويزدادان تهديداً وشراسة في "تنفيسة" على خشبة مسرح أو برنامج تلفزيوني. أما الإهانة، فهي دوماً لفخامته ودولته وسعادته وسماحته ونيافته، دوناً عن الرعايا.

وفي مصر، ليس عيباً أن تحوي السجون ناشطاً من وزن علاء عبد الفتاح، أو صحافياً مثل اسماعيل اسكندراني، أو كاتباً من خامة أحمد ناجي الذي خرج من سجنه ليتلقف فرصة اللجوء إلى الولايات المتحدة حيث وجد أخيراً رحابة الإبداع والتحقق والأحلام في كنف "اللا-قِيَم واللا-أخلاق". لكن العيب أن تحكي الناشطة منى سيف عن قضية أخيها علاء، فتُعتقل هي أيضاً. وأن تفترش والدتهما، الأستاذة الجامعية، الأرض أمام السجن، مُطالبةً بزيارة طال انتظارها، فتجتذب الصحافة الأجنبية و"تفضح الدنيا".

فكما أن العائلات الذكورية تريد "السّتر" ويردد أربابها أن "الناس لها الظاهر" غير المقترن بالضرورة بحقيقة وظلامة ما يدور بين جدران البيوت من عنف وتَعَدٍّ، كذلك السلطة التي هي أيضاً الدولة. وكما أن الأنثى المُغتصبة تُلام على اغتصابها، بدلاً من المرتكب، كونها ارتدت تلك الملابس وتواجدت في ذلك المكان في تلك الساعة،.. يُلام فنانون وناشطون وصحافيون، في لبنان ومصر وسوريا، على ضرب سُمعة أوطانهم الجنّات، بحكايات عن الفقر والإفلاس والاقترافات، وسائر الجرائم السلطوية التي يدلّعونها فيسمّونها أزمات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها