الثلاثاء 2020/08/04

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

ميكانيك العهد

الثلاثاء 2020/08/04
ميكانيك العهد
المعلّم ريمون زادت شهرته لأنّه كان الميكانيسيان المُعتَمد من شركة رينو
increase حجم الخط decrease
أوّل سيّارة اقتنيتها كانت من نوع "رينو 16، تي. إس." وذلك في العام 1979، وهي من النوع الذي كان مرغوباً يومها في أوساط الشباب، لجمالها وفرادة شكلها وحجمها العائليّ وسرعتها وثباتها في آنٍ معاً. وبطبيعة الحال بدأت الأعطال تظهر فيها بعد سنتين أو ثلاث بفعل تقادمها، فأنا اشتريتها مُستعملة وللأشياء في هذه الدنيا أعمارها. في ذلك العهد، لم تكن محرّكات السيّارات مصنَّعة من القطع الإلكترونيّة، بل من قطع ميكانيكيّة وكهربائيّة عاديّة بمجملها، وبالتالي لم تكن تُفحص كما اليوم بـ"السكانر"، كما يحلو للميكانسيانيّين القول تشبّهاً بالأطباء، أي بالكومبيوتر، بل كان كلّ عطلٍ خاضعاً لتقديرات المصلّح الميكانيكي وخبرته.

وحدث أن كنت مرّة في زيارة مسائيّة في طرابلس، وإذ ركبت السيارة للعودة إلى منزلي، وأدرت المفتاح و"ضربت مارش" لم يَدُر المحرك. كرَّرت المحاولة من دون جدوى، حتى كادت تفرغ البطّارية من كهربائها. استعنت بصاحب البيت الذي كنت أزوره، وراح يسأل الجيران أين يمكن أن نجد ميكانيسيان. فالميكانيسان، المعلِّم ريمون، الذي أصلِّح السيارة عنده محلّه في طرابلس، لكن الوقت ليل، وبيته خارج المدينة، ولا هواتف شغّالة في تلك الأيام، كما هي حال كهربائنا اليوم. أتانا أحدهم بولدٍ، في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر، يشتغل عند المعلِّم ريمون ويتعلّم المصلحة. فتح الغطاء وتفحّص المحرّك بعينيه، مفتِّشاً لا أعرف وهو لا يعرف، عن أي شيء، ثم طلب منّي أن "أضرب مارش"، مرّة واثنتين، وارتأى أن المشكِلة في "الكاربوراتور". وما أدراك ما الكاربوراتور بالنسبة إلى السيارة؟ إنه القلب الذي يمدّ السيّارة بالوقود ويُدوزن البنزين والهواء والكهرباء لتنتظم حركة المحرّك. وبمعرفتي المقبولة بميكانيك السيارات، رأيت أن هذا العطل محتمل وتركته يعمل. أعرته ما معي من عدّة بسيطة، وبمفرك البراغي حرك بعض العيارات في الكاربوراتور وطلب مني أن أدير المفتاح مجدّداً، مرّة واثنتين وثلاثاً ولم تنجح المحاولة. تركته يكمل عمله وأنا أنتظر داخل السيارة، وعندما خرجت بعد دقائق رأيته يحمل الكاربوراتور بيديه. عرفت فوراً أن الكارثة وقعت. لقد اقتلعه من قاعدته في المحرّك وهو ما لا يجرؤ أكبر المعلّمين على القيام به. وعندما صرخت به: "لا، لا، شو عملت؟"، ردّ علي مطمئناً: "ولا يهمّك، بسيطة، بتنحلّ". قلّبه بين يديه وهو لا يعرف ماذا يفعل به، ثمّ أعاده إلى قاعدته ولم يعرف كيف يثبته بالشكل الصحيح، ليفقد المحرّك في النهاية كلّ نفس حياة. أدركت للتوّ فداحة خطئي وبعض غبائي، لكن الحاجة تدعك تتصرَّف أحياناً بهذا الشكل. فأنا سلّمت رقبتي مرغَماً لولدٍ متعلِّم جاهلٍ، ويُلَقَّب، تشبيهاً، "حماراً" بمقياس الذكاء البشريّ.

هذا ما تأكّدت منه في اليوم التالي في كاراج المعلِّم ريمون حيث قطرنا السيّارة. فالولد مبتدئ، ساذج، بسيط العقل، لم يترقَّ حتى إلى درجة مساعد أو مستشار، ويبقى عرضة لتوبيخ معلّمه ومساعديه ومستشاريه وصراخهم به وسخريتهم منه. لكن لم أكن، لا أنا ولا السيّارة بحالٍ أفضل مع المعلّم ريمون.

فالمعلّم ريمون زادت شهرته لأنّه كان الميكانيسيان المُعتَمد من شركة رينو لإجراء المراجعات، "الريفيزيون révision"، المعهودة على السيّارات التي تُباع جديدة، وعلى يده تعلَّم الكثير من المصلِّحين في طرابلس والمنطقة حتى بات في مجاله بمثابة رئيسٍ وحوله مساعدون يسمّون أنفسهم مستشارين قبل أن يفتحوا على حسابهم ليصيروا معلِّمين لهم صبيانهم المتعلِّمون ومساعدوهم ومستشاروهم. ظلّ المعلّم ريمون، وقد بات صاحبي بحكم تردّدي على مَشغله، "ياخذني ويجيبني" كما يُقال، مدّة أسبوع إلى أن زاد استيائي وتضخّمت فاتورتي، وتقاضى منّي ما فيه النصيب.

عاد الكاربوراتور إلى موقعه، ومشَت السيارة، ولم أكد أشكر ربّي على سلامتها حتى ظهر فيها عطلٌ جديد. كلّما رفعت رجلي عن دوّاسة البنزين تنطفئ السيارة وهي سائرة. كلّفني ذلك عدة زيارات عند المعلم ريمون، أتركها عنده، بناء على طلبه، وأذهب إلى عملي، لأعود عند الفكّة وآخذها بعد أن أدفع بدل فاتورة لا بأس بها. وفي إحدى المرّات، لم أكد أغادر مشغله حتى عاد العطل نفسه، عدت إليه بسرعة ولم أقبل أن أتركها عنده. قال "بسيطة، "تزبيط الكاربوراتور" (ريغلاج réglage)، وفيما هو يشغّل مفرك البراغي، وأنا واقف قبالته عند الجهة الثانية من المحرّك، لاحظت أنه يتسلّل بيده الثانية إلى أسفل الكاربوراتور ليفعل شيئاً ما. سألته عمّا يفعل، أجاب لا شيء، أُدوزن الهواء.

عندما غادرت من عنده، وخرجت من المدينة، انطفأت السيارة من جديد بمجرّد أن رفعت رجلي عن دوّاسة البنزين. انتحيت بها جانباً، رفعت غطاء المحرّك وتفحّصت أسفل الكاربوراتور حيث كانت تتسلّل يده. وجدت ما يُسمّى نربيش الهواء فالتاً من مكانه ومن دون الحبسة الحديديّة التي تثبته. أعدته إلى مكانه وشغلت المحرّك فاشتغل ولم ينطفئ عندما رفعت رجلي عن دوّاسة البنزين، ثبّتّ النربيش بسلك حديد لففته عليه وسارت أمور المحرّك وأموري على خير ما يرام. أدركت للتوّ أنني وقعت هذه المرّة ضحيّة لصّ، اسمه المعلّم ريمون، المُلَقَّب بـ"الريِّس" أي الرئيس. فلا يمكن لهذا المعلّم، إلا إذا كان حماراً بدوره، أن يغفل عن ذلك. والحقيقة أنّه تعمّد نزع الحبسة لكي يفلت النربيش من مكانه عند أي اهتزاز زائد (حفرة مثلاً أو انعطافة قويّة)، فأعود إليه، ويعيده بدقيقة مكانه، يشدّه قليلاً ليعود بعدها ويرتخي شيئاً فشيئاً، بعد أيّام، ويحدث ما أظنّه عطلاً. إنه النربيش الذي يمدّ السيارة بالهواء الذي يعدِّل احتراق البنزين والأوكسيجين في الكاربوراتور. يقطع الطاقة عن السيّارة ليعود و"يربِّحني منِّيّة" بأنه أصلحها ويقبض منّي في كل مرّة مبلغاً مرقوماً، حتى كدت أن أبيع السيارة "بالبلاش"، وهو في كلّ مرة يعرض أن يشتريها منّي. ومنذ ذلك العهد صرت أراقب كلّ ميكانيسيان وهو يصلح سيارتي، وأكثر من الأسئلة والتفحّص والاستفهام، حتى بات معظمهم ينزعج ولا يرغب في إصلاح سياراتي بحضوري.

من ذلك العهد وفي كلّ عهد كان هناك سلوك حمار أو سلوك لصّ، لكن كان هناك من يحاسب أقله فرديّاً وبضميره، فالمعلم ريمون تراجع عمله بعدما فضحه الناس والشركة التي فسخت عقدها معه. لكنّ يبدو أن الظاهرة عادت وتفاقمت لدرجة أننا وصلنا إلى عهدٍ بتنا فيه، كيفما التَفَتْنا، نجد أنفسنا محاطين بحميرٍ أو لصوصٍ مكرَّمين ومعزَّزين في ادِّعاءاتهم وتشاوفهم!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها