الأربعاء 2020/08/12

آخر تحديث: 14:08 (بيروت)

بيروت... أبواب جحيمهم لن تقوى عليكِ!

الأربعاء 2020/08/12
بيروت... أبواب جحيمهم لن تقوى عليكِ!
بيروت محروسة بروحها (غيتي)
increase حجم الخط decrease
مَنْ يعش لحظة الانفجار يشعر أنّ صمتاً رهيباً يغلِّف الحواسّ ويعطّلها قبل أنْ يدوّي الصوت وتختلّ الأشياء في ومضة سريعة تسلِّم اللحظة الصادمة إلى شريط صُوَر بطيء لأجسامٍ متطايرة ومتناثرة ومتساقطة ومتهاوية ومتهالكة في إعلان أخرس عمّا لا تعلمه ممّا حدث للتوّ. ثمّ تأتي الأصوات، أصوات التكسّر وقرقعة الحطام العائد للاستقرار كيفما كان في المكان، و"جعير" البشر الذين لم يُصمتهم الانفجار نهائيّاً بل أطلق صرخاتهم المستغيثة وهم يتحاملون على جراحاتهم ويحملون ما كاد أن يصبح أشلاءهم، يستنقذون ما أمكنهم استنقاذه منها. صراخ متقطِّع يحاول عبثاً بَصق الغبار ومجّ طعم البارود أو غبار المتفجّرة الأسود الذي يوشك أن يقتلَ خنقاً من لم يتشلَّعْ بعد. مَن لم يَعِش تلك اللحظة لا يدرك هولها، إلا من بعيد، من الصورة النهائية المستقرّة والثابتة بعد الكارثة.

ومَنْ لم يعِش عصف الانفجار لحظة وقوعه يعصف به المشهد الأبوكاليبتي النهائيّ الصامت صمت القبور، تطالعه به، صورةً مجمَّدةً، الشاشاتُ وصفحات الجرائد. صورة ملوَّنة بالتأكيد لم يتبقَّ من ألوانها سوى الأسود والأبيض، الموت والفَناء. صورة صارخة بصمتها تطغى، كما الانفجار، على كل صوتٍ وكلام، ضاغطة تقطع الأنفاس مثل الهواء الذي تتخيلُّه فيها حاملاً الفراغ ومتلاعباً بغبار المكان وذرّات الأشياء، معلِناً انتهاء الحياة في مكانٍ ما.
انفجار مرفأ بيروت تخطّى كلّ ذلك، وفتح، عبر فجواته، على ما هو أبعد وأعمق وأَمَرّ.
4 آب/ أغسطس 2020، الأشرطة الحيّة المسجّلة والمنتشرة عن لحظة الانفجار،
صبيحة 5 آب/ أغسطس 2020، المشهد النهائيّ... بيروت، "حبيبتنا بيروت"، أمّنا بيروت، قلبنا النابض بيروت، في صمتها الأسود والأبيض.

لأوّل مرّة ربّما نبكي الحجر قبل البشر، لأنّ الحجر هنا رمز حياة، لأن في الحجر هنا نفَساً ودماً ونسيجَ جسَدٍ حيّ منذ مئات وآلاف السنين. لأنّ في الحجر هنا أرواحَ الذين بنوا وعمّروا وأعلوا وصنعوا الازدهار وأمَّدوا البحر والبرّ المحيط بنسغ حياة أحبَّها بعض المحيط حتى العشق، وأصابتها عين الحسد من بعض المحيط الآخر حتى تمنّي زوالها والعمل لذلك. وكم! وكم حاولوا مرّة تلو الأخرى خنقها وإعدامها، وحين عجزوا ضربوا قلبها النابض، المُمتصّ عبر  شرايينه لدماء أحقادهم وسمومهم المنفوثة، ينقّيها ويعيد ضخّها فنّاً وإبداعاً وجمالاً وتطوّراً ورقيّاً.
المشهد الضاغط يتفجَّر في العيون دمعاً، وبالتأكيد هو أكثر وأمرُّ من دمع الحسرة ودمع الضعف والعجز ودمع الندب والبكاء على الميت. إنه دمع القهر والغيظ والنقمة، دمع الدم الفائر ودمع الثورة.

وجدتني أخرس صامتاً، لم أدوّن أيّ كلمة على صفحتي أو أوراقي. أحسست أنّ لا شفاء من هذا الدمع إلا بالشتائم والسّباب، السباب "من الزنّار وبالنازل"، "من تحت الزنّار"، العبارة العزيزة على أحد أصحاب المناصب الرفيعة اليوم. أعترف بأنني تريَّثت، لكنّي وجدت من تجرَّأ وسبقني إلى ذلك، ليس من الناس العاديّين، بل من أدباء وكتّاب ومثقّفين، لم يجدوا غير الشتم المباشر والسباب ما ينفسّون به غيظهم وقهرهم والظلم الذي بات يشعر به كلّ مواطنٍ شريفٍ وحرّ في هذا الوطن العزيز.

قليلة عليهم الـ"تفووووه"!
قليلة عليهم "الهيلا هو"!
قليلة عليهم "أولاد القحبة"!
وشكراً، ألف شكرٍ لمطلقيها.

لا تكفينا ولا تشفينا الشتائم على موتاهم، هم الذين يُسقطون موتانا، ولا يعبأون بضحايانا وبدموع الأرامل والثكالى، ونواح الأيتام وصراخ المشرَّدين وبؤسهم.
هم بناديق السلطة المزيّفون، المتسلِّقون إليها على أدراج الوصوليّة والنفعيّة والانبطاحيّة.
هم مصادرو الحكم بقوة سلاحٍ أو بقوة مال، وناشرو ثقافة الدماء والموت مقابل ثقافة الجمال والحياة.

هم، من صغار الموظّفين إلى كبارهم، ومن أساطين الرؤساء والوزراء المكتفين بلعب دور الواجهات الهشَّة إلى كبار أسيادهم وداعميهم، الذين انخرطوا في سياسة الفساد والإفساد وعمّموها، حتى جاء حدث الرابع من آب الجلَل، قمّة إنجازاتهم السافلة سواء أكان ناتجاً من سياسات تكتيكيّة عسكريّة لم تأتِنا على مدى أربعة عقود إلا بالويلات وبدمارات متتالية، أو من سلوك إهمال واستهتار بقوة الحجر وبحياة البشر مع استقواء دنيء بأصحاب الشأن.

هم الممتلئون بقوة سلاحهم، أو الجبناء المستقوون بقوة هذا السلاح!
هم الكذّابون الدجّالون الانتهازيّون الذين وصلوا إلى الحكم بمقولات تدّعي محاربة الظلم والأنظمة التوتاليتارية وقمع الحرّيات، ليقيموا بمجرَّد وصولهم، حكماً مخابراتيّاً ديكتاتوريّاً قمعياً. يمنعون علينا حتى البكاء الغاضب!

هم الذين يستنسخون بالدم والشهادات أنظمة بائدة، سيلفظها، شاؤوا أم أبوا، الجسد اللبنانيّ.
هم الذين وظّفوا "الله" في خدمة حزبٍ وقوم زاعمين أنّهم "رجاله"!
هم الذين أقاموا لله عرشاً ونصَّبوا عن يمينه رئيساً دمية وعن يساره زعيماً قزماً!
هم كلّ هؤلاء الذين تدرَّعوا بـ"الله" كيلا يُمَسُّوا، لكي يصير الكلام عليهم وانتقادهم تجديفاً على الله.

هم كل هؤلاء الذين احتموا بالطائفة والمذهب، أي طائفة وأي مذهب، جاعلين منها رداءً لله ومن الرداء هذا كيساً كدَّسوا فيه ثرواتهم باسم المؤمنين والفقراء والمحرومين، وعلى دماء المؤمنين والفقراء والمحرومين البسطاء الذين لا يذرفون عليهم حتى دموع التماسيح!
هم التماسيح بلا دموع حتّى! ولن يكون الله جلد تمساحٍ يحتمون به!
"الله"ـهُم هذا نحن ننكره، نكفر به، وإن كان هذا "الله"ـهُم، فليس تجديفاً إذا شتمناه لأنّه خلق أقواماً مثلهم. لأنّ الله الحقّ، "الله"ـهنا، خلقنا على صورته ومثاله في كمال الحياة بالجمال والمحبة والرأفة والرحمة والنقاء والصفاء والعدل والإنصاف، وهم من كل ذلك براء، والله منهم براء.

ليس الوقت ولا المكان للكلام في السياسة، ولا للتحليل المنطقي!
وليس للشِّعر الذي يأتي لاحقاً بعد اختمار المأساة والألم.
إنه أوان الشتيمة المباشرة، عملياً ومعنوياً.
سنظل نشتمهم، إلى أن يرحلوا!
سنظلّ "ننكش عِظام موتاهم" إلى أن ننتقم لموتانا ونثأر لبيروت الجريحة المفجوعة!
سنطاردهم إلى أن يرحلوا ونعيد الحياة إلى أرض بيروت وحجارتها!
بيروت قلبٌ نابض لا يتوقّف ولا يموت!

بيروت شعلة أبديّة لا تنطفئ!
بيروت، مهما حاولوا قتل الجسد فيها، ستبقى نَفَساً دائماً وروحاً خالدةً محلّقة في فضائنا، لن تلبث أن تعود وتنبعث حياةً من تحت الركام والدمار!
بيروت محروسة بروحها، مُتقمِّصة بالحياة وأبواب جحيمهم لن تقوى عليها!   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها