الثلاثاء 2020/07/21

آخر تحديث: 17:32 (بيروت)

نساء الحَجر: الأرقام وصَلت.. و"إيما" رسَمت

الثلاثاء 2020/07/21
نساء الحَجر: الأرقام وصَلت.. و"إيما" رسَمت
من غلاف "أزمة واحدة تكفي" لرسامة الكوميكس "إيما"
increase حجم الخط decrease
انتظرت "إيما"، نحو أربعة أشهر، لتدلي بدلوها في تأثير فترة الحجر الصحي الفرنسي في النساء. وأخيراً، أفرجت رسامة الكوميكس الفرنسية مجهولة الهوية، أمس الإثنين، عن كتيب رسومها. وقبل التوقف عند القرصة العميقة التي يحدثها الكتيب الجديد في القلب والعقل، لا بد من الإشارة إلى أن "إيما" اليوم، في عالم الكوميكس النسوي، قد تكون المُعادل النسوي لـ"بانكسي" الغرافيتي السياسي. وذلك ليس فقط لأن كلاً منهما اكتفى بتوقيعه الفني، مؤثراً إبقاء هويته واسمه الحقيقي مجهولاً. بل لأن الرسّامَين مؤثّران في جمهور عريض، لاذعان، يتمتعان بقدرة استثنائية على فكفكة مبسّطة لقضايا معقدة يؤمنان بها ويعمل كل منهما على توليف خطابه ولغته الخاصة في التعبير عنها، مع لمسة تجمع النقد والظُّرف وشحنة عاطفية مؤكدة.


"إيما"، التي تحظى صفحاتها الإلكترونية (حيث تنشر إنتاجها من الـWebComics) بمئات الآلاف من المعجبين والمتابعين ومشاركي أعمالها، انطلقت شهرتها في العام 2017، عندما نشرت سلسلة "كان عليكِ أن تطلبي" (Fallait Demander)، مُحققة انتشاراً فيروسياً، وترحيباً الكترونياً واسعاً، سواء في أوساط الصحافة والنقد الفني والجندري، أو على مستوى المتلقين الذين ليسوا بالضرورة فرانكوفونيين، إذ تكفي معرفة سطحية باللغة الفرنسية، أو حتى الاستعانة بمحركات الترجمة أونلاين، لفهم العبارات القصيرة والبسيطة التي تخرج من أفواه شخصياتها أو تعنون مختلف المَشاهد المصوَّرة. وفي هذه السلسلة، كانت "إيما" قد تناولت الفوارق بين الرجال والنساء في النظرة إلى إدارة شؤون البيت والعائلة. فرغم كل ما حصّلته النساء الفرنسيات والغربيات عموماً، بعد نضال طويل، من حقوق وفرص تساويهن بأقرانهن الرجال في شتى المجالات، ما زالت هذه الفوارق تظهر في كمّ معتَبر من المُسلَّمات والمسكوت عنه في العلاقة بين الجنسين تحت سقف واحد.

فهذه الأعمال، بمنظار سوسيولوجي وثقافي كامن، لدى كثر، تحت سطح المكتسبات القديمة والجديدة، تبدو "بديهياً" مسؤولية المرأة أولاً، فيما يجب توجيه نداء أو دعوة للرجل كي يساعد وقت اللزوم. هكذا، سلّطت "إيما" الضوء على تجاذبات الحياة المنزلية اليومية، في كنف الحجر، ومُرهِقاتها وإحباطاتها التي تكبّدت النساء الحصة الأكبر منها.

أما في تقديمها للكتيب الجديد، فكتبت "إيما" في صفحتها الفايسبوكية: "خلال فترة الحجر الصحي، سئلتُ كثيراً عن رأيي في تأثيره في النساء من حيث العبء الذهني، لكني رفضت التعليق آنذاك، لأننا كنا ما زلنا في خضم الحجر، لم أكن أتواصل مع محيطي بالقدر الكافي، ولم تكن قد توافرت الإحصاءات التي تسمح بتكوين رأي، علماً أنني كنت قد بدأت بتشكيل رأي صغير". وتتابع "إيما": "ثم فُكّ الحجر، ونُشرت الإحصاءات، وها هي الكوميكس تركز على شقّ الأعمال المنزلية لأنه الموضوع الذي حظي بالنسبة الأقل من الكلام. أدرك أني لم أتعامل مع نواحٍ أخرى كثيرة مهمة، من نوع عمليات الإجهاض التي ما عادت متاحة خلال الحجر، وتفشي حالات اللا-استقرار والعنف المنزلي، لكن ربما في إصدارات لاحقة".

وفي عملها الجديد المعنون "أزمة واحدة تكفي" (il suffira d’une crise)، تستند "إيما" في عملها الجديد، كما دائماً، إلى تجارب شخصية وملاحظات تجمعها من احتكاكها بمحيطها النسائي والرجالي، ما يجعلها مُدوِّنة فذة إلى جانب مهاراتها الفنية والنقدية، لتخلص إلى اقتباس من سيمون دوبوفوار ختمت به قصتها المصورة: "لا تنسَين أن أزمة واحدة، سياسية أو اقتصادية أو دينية (وتضيف "إيما": أو صحية!)، كافية لإعادة مساءلة حقوق النساء وتحديها. هذه الحقوق لن تكون أبداً نهائية الاكتساب، عليكن البقاء متيقظات مدى الحياة". وبين دفتي العنوان والختام، ترسم "إيما"، برقّة ودقّة، معاناة اليوميات النسائية ذات الخصوصية المضافة إلى المعاناة الاجتماعية والاقتصادية الوطنية والكَونية. وهو ما يحيل إلى تساؤل، لا يخلو طرحه بعد عقدين على ولوج الألفية الثالثة، من عجائبية (وربما أيضاً هو الواقع المُتنكَّر له عمداً أو عفواً): لماذا تبدو مكتسبات النساء، مع تفاوت تحققها حول العالم، على هذا القدر من الهشاشة، فتُمتحن عوداً على بدء أمام كل استحقاق صعب، حتى في أكثر الديموقراطيات ومجتمعات المساواة رسوخاً؟ وهل هي، بالمعنى هذا، مشابهة لمكتسبات الفئات "الأضعف"، مثل الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً، والملوّنين، وغيرهم؟ وما الذي ما زال يمنعها من "التأصل" في ديناميات العلاقات الأسرية ومع شركاء البيت والحياة؟ هي أسئلة مفتوحة على بحر من الدراسات والبحوث، وبحور أخرى من السجالات بأدوات فنية وأدبية بلا حصر، لكن "إيما"، وبفطنة شديدة البساطة، تعبّر عن رفضها للزعم بأن النساء مفطورات على هذه المهام. الأعمال المنزلية والعاطفية (بما فيها الجنس) مرهقة جسدياً ونفسياً، لكننا "أُنشئنا" على الاضطلاع بها منذ الصغر، ولعلنا لم ندرك بعد حجم ما كلّفنا إياه الحجر صحياً وذهنياً.

.. وترسم "إيما": قرابة نصف الأمهات العاملات مِن بُعد (teletravail) في فرنسا، في مقابل رُبع الآباء فقط، أمضين 4 ساعات إضافية يومياً في رعاية الأولاد. 42% من النساء العاملات من بُعد، تابعن العمل في مساحات مشتركة، مقابل 26% فقط من الرجال. النساء اللواتي تخلين عن نشاطهن المهني، خلال الحجر، عددهن ضعف عدد الرجال المتخلين عن العمل. امرأة بين كل خمس نساء وضعت العائلة أولوية على العمل، غالباً لأسباب مالية، لكن أيضاً لأسباب ثقافية، إذ ما زال دَخل المرأة يُعتبر، ولو في اللاوعي، "المُعزز" لدَخل الأسرة ككل، وليس أساسياً. خلال الحجر، تزايد الضغط العاطفي على النساء اللواتي انغمست غالبيتهن في إدارة الصراعات والإشكالات بين أفراد الأسرة، وممارسة دور الطمأنة والدعم النفسي، الأمر الذي يفضي بدوره إلى رقم جديد: 12% من النساء مارسن الجنس مع الشريك من دون رغبة، فيما ازدادت "القناعة" بفكرة الإقدام على الجنس إرضاءً للشريك بنسبة 7 نقاط مقارنة بالعام 2014.

قد تلتصق رسوم "إيما" بالواقع، وبالوظيفة التوعوية، الاحتجاجية، أو المطلبية، إلى حد قد يدفعها، في نظر البعض، إلى حافة الدور التربوي أو الوعظي. لكنها، في النهاية، لا تقع في مطبّ الخطاب هذا. بل تسير على ذلك الحبل المشدود محافظة على توازن دقيق بين الرأي والفن، بين الإبداع وصيحة الرفض، فاتحة أفقاً جديداً لفنها "البوب" دعمتها في حفر الطريق إليه طبيعة وسائطها، أي الفضاءات الالكترونية لا سيما الشبكات الاجتماعية وتفاعلاتها وارتباطها الوثيق باليومي وتحرر الرأي الفردي، آراء العاديات، المجهولات مثل الرسامة. تشجب "إيما" غياب الاستثمار الحقيقي في توسيع دائرة التربية النسوية من أجل تكريس سوية المرأة بالرجل خلال تكوّن العقليات والسلوكيات بين الأطفال والفتيان، وهو ما تفعله بيدها عملياً. فيما تبدو مدوّناتها بالكوميكس، ذخيرة جيدة، لنساء العالم، استعداداً لفترات حجر جديدة قد تفرضها موجة ثانية وثالثة لوباء كورونا، لا مبرر، هذه المرة، أن تكون بهذه القسوة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها