الثلاثاء 2020/06/23

آخر تحديث: 15:54 (بيروت)

الحرب التي نفتقد

الثلاثاء 2020/06/23
الحرب التي نفتقد
من تظاهرة 12 حزيران في وسط بيروت (غيتي)
increase حجم الخط decrease
تعود حرب 1975 اللبنانية إلى الواجهة، بقوة. في الكتابات السياسية والثقافية، وأكثر منها في أحاديث الناس. الحرب لم تغب أصلاً عن أي من هذه السياقات. حُكي وكُتب وأُنتج الكثير عن الذاكرة والعدالة الضائعة، عن المخطوفين والمفقودين والقتلى، مدنيين ومسلحين، الحواجز والمعابر، وتاريخ الأحزاب والمليشيات، القضايا الكبرى والصغرى، اقتصاد الحرب، واجتماع ما بعدها. الحرب التي لطالما عاد إليها كثُر بألم من فَقَد أحبّة أو بيتاًّ أو مدّخرات. ويعودها آخرون بابتسامات حلوة مُرَّة تتخلل سرديات الملاجئ وممرات الشقق، لعب الورق، تعاضد الجيران، وقصص الحب والزيجات المستحيلة. شح الماء والكهرباء، وكل الأساليب المبتكرة للاستمرار في ظل النُّدرة. مسرحيات الرحابنة يبثها راديو ترانزستور في ضوء الشموع، وتتخللها الأخبار العاجلة عن مواقع القصف أو الاشتباكات. شخصيات روائية وسينمائية ومواضيع غنائية بالأطنان. حكايات "كي لا ننسى"، و"تنذكر حتى ما تنعاد"، ولو فقط للتوثيق، الذي لم ولن يتبلور مشروعاً وطنياً يطوي فعلاً تلك الصفحة. واعتذارات، ومُطالعات نقد ذاتي، قدمّها، بمبادرات فردية، مشاركون في الحرب أو منظّرون لها، ولم تغادر المانشيتات الصحافية لتثمر في عمل سياسي...

الحرب لم تغب. لكنها اليوم تُبعث في قميص جديد: الحنين. ليس الحنين الملتبس بالتناقضات، المرافق طبيعياً للذاكرة، موجعةً كانت أو حميمة. بل الحنين بمعناه الأوليّ: أن تلك كانت أياماً أفضل. انقرضت أمثولة "أيام العز" و"سويسرا الشرق". ما عاد لهذه الأسطورة ما يحييها. صار حتى تذكّرها ترفاً، لا قدرة عليه، ولا رغبة فيه، تاريخ سحيق مغبرّ. أما الحرب، فكانت حقيقية، جداً، صنيعة لبنانيي اليوم أنفسهم. تشبههم أكثر من الثورة، يفهمونها، يجيدونها ويجيدون التعامل معها. لكن هؤلاء اللبنانيين، قديمهم وجديدهم في سدّة الحكم والأزقة، في المصارف والمقار الأمنية وحول طاولات "الحوار"، مصابون برثاثة وهزال، لا يملكون شيئاً من بأس تلك الحقبة وأقبيتها حيث لم تتراكم التوابيت إلا بمعية الذهب، ولم يستشرِ البؤس في زاوية إلا ليفجّر رخاء في أخرى. "كنا ندبّر أمورنا مع قوى الأمر الواقع في كل حي أو مدينة، وكانت تلك القوى، بزعرانها وأوادمها، قادرة على تقديم الخدمات، وتسيير الحاجات، فإلى مَن نلجأ الآن؟"، يقال في المجالس.

الحالة اللبنانية الراهنة لا تحتاج دليلاً إضافياً على مأسويتها وكارثيتها. لكن ظاهرة استعادة حرب لبنان، تسلط أضواء إضافية على لا معقولية ما يعيشه اللبنانيون. على ما لم يكن لمواطن، إلى أي فئة أو طبقة اجتماعية انتمى، ليظن أنه سيختبره في يومياته ومعاشه وأمنه الجسدي والاقتصادي والاجتماعي، بهذه الطريقة الفجّة، وكأنها الكابوسية السينمائية التي قد تثير تملمنا باعتبارها مبالغة كان النص في غِنى عنها.

"يا محلا أيام الحرب".. بتنا نسمعها كلازِمة. رغم القتل والتهجير والدمار وحتى الفقر، كان هناك دائماً مَن يهاجر ويرسل ما يعيل أسرة أو أكثر. تحويلات المغتربين، كما أموال الحرب وبضائعها، سياحتها وفرص عملها، سمحت باستكمال الحياة. الحياة التي قد ينهيها، عبثاً، قنّاص، أو مُفخِّخ سيارات لا يعرف قتلاه. لكن مَن يبقى، يعِش. تقلبات الدولار قلبت حيوات عائلات بأكملها. وبموازاة السيرك النقدي، أمّنت الحرب بدائل، فصار التأقلم ممكناً، وقد حصل. اليوم، لا اغتراب يعين، ولا أموال عامة تُسرق، ولا زعامات طائفية تستسقي "دولها" فتأكل الكثير وتُطعِم القليل. السيرك أصبح زلزالاً توراتياً، ولا حرب تجد من يمولها. لا حرب إلا بالشبيحة (وهؤلاء رخيصون)، وأعصاب الناس وأرزاقهم وفوضى مآلاتهم (وهذه مجانية). تغلي الطوائف بغرائزها، فتنقضّ، لكنها لا تقع إلا على السراب في هذه الصحراء القاحلة بعدما هُرِّب ما هُرِّب، و"القادة" يتسولون كل شيء إلا الواقعية المسؤولة، ولو بنسبة ما من أرباح النهب. "القادة" أيضاً ما زالوا بعقلية الحرب، لكن من دون دينامياتها المولّدة لحلولها.

في الحرب، كان التعليم، بمختلف مستوياته، ما زال ممكناً، بل حافظ على الكثير من ازدهاره. ظل لبنان الجامعة والمستشفى، المطبعة والصحافة والفنون، مُصدِّر الكفاءات والخدمات، خدمات الحرب والسِّلم معاً... يقول الناس. لا يهمّ إن كانت الذاكرة ههنا دقيقة. زيارات الماضي تؤتى من أبواب شتى، وشبابيك وأنفاق. لا تُحاسب الذاكرة على صحّة الخطاب، بل تُحسب في ميزان الانتقاء: قُل لي ما تشتهيه من الأمس، أقُل لك من أنت اليوم وغداً.

إنها الحرب التي لم نستعدها بالمحاسبة، ولا حتى صُورياً أو معنوياً، بل كوفئ أمراءها. لم نفتح ملفاتها لمصالحات جدّية، تتضمن اعترافات واعتذارات وتحمّل للمسؤوليات، ولا لإصلاحات حقيقية. نستحضرها اليوم بتَوق المشتاقين إلى "الزمن الجميل"، وهذا بعض من بئس المصير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها