الثلاثاء 2020/06/02

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

الجوكر اللبناني

الثلاثاء 2020/06/02
الجوكر اللبناني
"لا عدالة.. لا سِلم" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
"الجوكر" في الشارع، بكامل مكياجه وزيّه المطابق للفيلم الحائز على "أوسكار"، إفريقي أميركي يرفع لافتة "لا عدالة..لا سِلم"، وفي زاويتها هاشتاغ Black Lives Matter. هذا مكانه الطبيعي، بحسب السيناريو وبحسب الحدث. السينما نزلت إلى أرض أميركية تغلي بالاحتجاجات. هوليوود، التي شكّلت وعياً عالمياً على معنى أميركا وتاريخها وأوهامها، أساطيرها وفرحها وكربها، نظامها السياسي والقضائي، أشكال حيواتها المختلفة من نيويورك إلى لوس أنجليس إلى تكساس، الحلم الأميركي وفُرصه الحقيقية والدعائية.. هوليوود، في صورة "الجوكر"، تؤخذ عولمتها إلى الداخل. لكن لا داخل أميركياً حصرياً. فهذا عالم "نعرفه" و"عشناه"، معاً ومعهم، في الصالات المعتمة المكتظة، وعلى كنبات منازلنا. "الجوكر" المنضم للتظاهرات، وربما من حيث لا يدري، لا يخاطب ترامب والإدارة وأجهزة الشرطة فحسب، بل يتحدث إلى مع ضمير كَونيّ يعرفه وساهم في تكوينه، أياً كانت إشكاليات هذا التكوين. 



(اعتقال - غيتي)

الصور الأميركية الآن، قمع المتظاهرين والإعلاميين، وفيديوهات وتغطيات الاعتداءات المتكررة على أفارقة أميركيين في الأماكن العامة ولأتفه الأسباب أو حتى من دون سبب، تخاطب العالم بأسره. ليس فقط لأنها أميركا، القطب الأبرز، والمؤثرة، شاءت أم أبت، شئنا أم أبينا، في السياسة والاقتصاد والثقافة، واستهلاك كل هذا. بل أيضاً لأن العام 2019، الذي سمّته الصحافة الغربية "عام موجة الاحتجاجات العالمية" المستمرة في 2020، إضافة إلى أزمة كورونا التي وحدت قلق البشر في كل زاوية من الكوكب، يجعل التماهي مع غضب المحتجين أمراً واقعاً، بداهة المظلومية الأممية الآن.


(الشغب لغة الذين لا يُسمَعون - غيتي)

في التشيلي ومصر، في العراق والجزائر، في فلسطين، هونغ كونغ، الهند، إيران، وفرنسا، في سوريا حيث خرجت رسوم التضامن من إدلب... وفي لبنان الذي حضرت ملائكته في أحد فيديوهات الاشتباكات مع الشرطة في منيابوليس، فذكّر المذيع المشاهدين بأن "هذا ليس لبنان في خضم الحرب الأهلية، بل قلب أميركا، وهي الحرب في الشوارع".


(حياة السود مهمة - غيتي)

تناقل اللبنانيون هذا الفيديو، متهكمين على أنفسهم وصورتهم "أمام الأجانب". ولم يألوا سخرية أيضاً في عقد المقارنات اليومية بين ثورتهم المخنوقة، ثورة 17 تشرين، وبين الحدث الأميركي. فهطلت كالمطر إسقاطات الشخصيات اللبنانية، من نواب ووزراء وإعلاميين وحتى ناشطين، على السياقات المشتعلة في منيابوليس ونيويورك ولوس أنجليس وغيرها. إحداثيات الطرق المفتوحة والمقطوعة. إطلاق الرصاص المطاطي وسائر المقذوفات على فِرق الصحافة. الحاكم المنفصم إلى حد الكاريكاتور، وحتى نظرية المؤامرة وتهديد السلطة بعسكرة القمع حتى النهاية...


(أي لون ترى حينما أنقذ حياتك؟.. ممرضة سوداء - غيتي)

ثمة ما يتجاوز الدعابة اللبنانية، إلى التمسك بتلابيب مَدد معنوي ما. أن الشارع حيّ، في مكان ما. وليس أي مكان، بل أميركا، تلك الضخمة العظيمة القوية، البعيدة، القريبة من خيالاتنا البوليسية والسياسية، الغرامية والكوميدية والتراجيدية. وفوق ذلك، هذا الاحتجاج يشبهنا.


(معركتك.. معركتي.. كفى.. لاتينيون من أجل حياة السود - غيتي)

الصور تكاد تكون نسخاً كربونية عن جسر الرينغ وشارع الحمرا وساحتي الشهداء ورياض الصلح، وكل الطرق التي أفضت بثوار وصحافيين إلى المستشفيات وثكنات الاعتقال. واجهات المحلات والمصارف المكسورة، وألواح الخشب والحديد التي تسيجها الآن. التطوع لتنظيف الأحياء بعد الكرّ والفرّ. الغرافيتي، وليس أقله عبارة "كُلوا الأغنياء".


(تكسير واجهات مصارف في أميركا - غيتي)

فقراء لبنان فقدوا كل شيء، وتوسعت كتلتهم، بفعل الإنهيار المالي ثم كورونا، والفئة الحاكمة ما زالت تهرّب الأموال إلى الخارج. وفقراء أميركا الملونون، تستعر أرقام الوفيات بينهم بسبب "كوفيد-19" فيما السلطة البيضاء بالكامل تدفع إلى رفع الحجر وإعادة تشغيل الاقتصاد، وكأن هؤلاء الموتى ليسوا في الحسبان. الاختناق بالغاز ورذاذ الفلفل، هنا وهناك. أبواق السلطة، مطبّقو خطابها والمتنمرون باسمها في الشارع، صُفر وخُضر وبرتقاليون في لبنان، وبِيض في أميركا. الجلوس السلمي على الأرض، مع وردة في اليد. والأيدي المتشابكة في مواجهة الشرطة. أيدي السود والبيض، أو أيدي أبناء الطوائف، مناصرة الجاليات اللاتينية للأفارقة الأميركيين بشعار "معركتك.. معركتي"، أو الدعم المتبادل بين النبطية والأشرفية وطرابلس، لا فرق كبيراً. صرخة الضحية تمسي شعاراً: "لا أستطيع التنفّس"، وأسماء ضحايا العنف العنصري، وصورهم، تُرفع لافتات، كما شهداء الثورة اللبنانية.


(حملة تنظيف - غيتي)

ويبقى أن نعترف. ليس كل الاهتمام اللبناني، بالمتابعة أو التضامن، مُشرّفاً. لا بد من تلك البصمة الأخرى. فها هو "الناشط" ربيع الزين، المتخبطة صورته في الشبهات وعلامات الاستفهام، يظهر في فيديو ليحمّس "الشعب اللبناني" على إحياء ثورته ويضرب بأميركا مثلاً: "عيب الواحد يحكي.. بس كرمال عبد أسود، خربوا الدنيا الأميركان، ونحن شعب لبناني واحد!". وها هي "الفنانة" تانيا صالح، التي سبق أن عبّرت عن هيامها بالجزمة العسكرية، تنشر صورتها في "تويتر" معدّلة بالفوتوشوب لتبدو سوداء البشرة، على اعتبار أنها تناصر الأفارقة الأميركيين، وتكتب: "كل عمري كنت أحلم كون سوداء"! العنصرية اللبنانية من قلب الحدث، مَرة مباشرة وفجّة وبشعة و"عيب الواحد يحكي". ومرة من المقلب الآخر، الإكزوتيكي/التحقيري النابع من جهل عميق وتفاهة أعمق. لحسن الحظ، نال هذان النموذجان المشينان نصيبهما الوافي من التوبيخ وضرب الأحذية -افتراضياً- في السوشال ميديا. أما الثورة فلا يبدو أنها تتمتع بحظ مماثل، اللهم إلا في اتساع المشاعر على امتداد العالم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها