ينطلق الفيلم من فضاء المسرح، لرسم لوحة تتشكل من حدثين بفاصل 16 عاماً. الحدث الأول هو حفلة موسيقية، للمؤلف وعازف الجاز الشهير ديوك إلينغتون العام 1963، أتى ضمن جولة قام بها الأخير في الشرق الأوسط، وصودف حصولها في يوم الانقلاب على الرئيس عبد الكريم قاسم، الذي قاده عبد السلام عارف بدعم من حزب البعث. أما الحدث الثاني، فهو "المؤتمر القطري الإستثنائي" لحزب البعث، الذي ترأسه صدّام حسين العام 1979 في قاعة مسرح الخلد، بعد اشهر قليلة من تسلمه الحكم بشكل رسمي إثر استقالة أحمد حسن البكر.
فاجأ صدام يومها الموجودين باتهامه 48 منهم، ينتمون للكادر السياسي للحزب ولمجلس قيادة الثورة (ثلث مجلس الثورة) بالتآمر لإسقاطه بمساعدة نظام حافظ الأسد (في سياق مشروع الوحدة مع سوريا الذي كان قد صدر ميثاقه قبل عام)، في عرض بالغ القسوة نقله التلفزيون العراقي يومها ويمكن إيجاده اليوم في "يوتيوب"، ويخبر الكثير عن سادية صدام حسين الذي يظهر مستمتعاً وهو يبث الرعب في قلوب الحاضرين.
التهمة التي وجهها لقيادات الحزب هي الخيانة والتآمر، وقد أتت بلا إنذار مسبق أو أدلّة مادية، واعتمدت فقط على اعترافات مزعومة للقيادي السابق في الحزب، محي الدين الشمري، قدمها أمام الحضور طوال أكثر من نصف ساعة، وسمّت جميع المشاركين الذين كان على كل منهم، حين يُذكر اسمه، الخروج من القاعة بمرافقة الأمن، وقد أُعدم الجميع بعد أقل من 48 ساعة (ومن بينهم الشمري).
بث صدام يومها الرعب في قلوب الموجودين في القاعة، ويُظهر تسجيل المؤتمر بكاء البعض من وقت لآخر. عُرف الحدث لاحقاً بـ"مجزرة الرفاق"، وهناك أكثر من مصدر تحدث عن إجبار صدام حسين، قيادات الحزب في المناطق، على تنفيذ حكم الإعدام بالمتهمين، رغم أن بعضهم ارتبط بعلاقة وطيدة معهم، وهو سلوك يبدو أنه كان معتاداً من قبل الرئيس العراقي الأسبق واتبعه في أكثر من مناسبة من أجل "تعميم" الجريمة وتضييع الثأر.
يقوم فيلم علي العيّال على اللعب بالحقائق والتسجيلات المأخوذة للمؤتمر، حيث يُبدل جمهور حفلة الجاز، بجمهور المؤتمر، مع إقصاء صدام حسين كلياً، وإبقاء عازف الجاز على المسرح. يصبح المشاركون في المؤتمر هم جمهور حفلة الجاز، وهذا ما يغير تفسير تصرفاتهم، مثل مغادرة القاعة، الوقوف والإحتجاج على قرارات صدام حسين، بالإضافة للتصفيق الذي يتحول من مجرد رد فعلي بديهي للدفاع عن النفس أمام الطاغية، إلى إعجاب بالموسيقى.
في البداية، تنطلي هذه الحيلة على المشاهد الذي يستغرب وجود رجال بتلك الهيئة والجدية، في حفلة موسيقية من هذا النوع، ويظن أنهم كانوا ينتظرون شيئاً مختلفاً كلياً، ولذلك امتعضوا وقرروا المغادرة. طبعاً لم يكن ذلك ليحصل، لولا إقصاء الفاعل ذي الحضور الطاغي في الفضاء المكاني، وهو صدام حسين الذي كان يتصرف في المؤتمر من موقعه المرتفع عن الجميع، كإله يعاقب ويحاسب من يريد وكيفما يريد، وبالتالي، من دون وجوده، زال أثر سلطته على الحاضرين والمشاهدين في آن.
يساعد الواقع البديل الذي خلقه العيّال، بين الزمنين، في خلق تاريخ جديد و"حياة" بديلة للضحايا خارج الواقع الذي قتلوا فيه. يسمي العيال هذا الواقع: نفق الآنوناكي، مشيراً إلى أسطورة أبواب العالم السفلي عند السومريين التي قيل في إحدى نظريات المؤامرة أن صدام حسين كان على وشك إعادة تشغيلها من أجل استعمالها للإنتقال عبر الزمن أو السفر لأمكنة بعيدة بلمح البصر، وبأن هذا ما دفع الجيش الأميركي لاحتلال العراق!
تلعب الأسطورة في فيديو العيال دور "المرجع الخيالي" للسرد، وتصبح أداةً يستعيد من خلالها المفقودون والموتى وجودهم من جديد.
يُجري المخرج حواراً متخيلاً في الفيلم، مع والده المفقود منذ العام 2006، يخبره فيه تفاصيل اللحظات التي عاشها الضحايا الخارجين من القاعة أمام الكاميرات، و"كيف يمكن رؤية الموت واضحاً على وجوههم"، مستعيراً كلمات غلغامش التي تستكمل الأسطورة السابقة وتعطيها معنى جديداً، علما أن غلغامش في أسطورته، استطاع العبور إلى العالم السفلي والعودة مجدداً، وهو الشخصية الوحيدة التي هددت بكسر أبواب العالم السفلي "لتمكين الأموات من العبور مجدداً إلى عالم الأحياء" (ما يجعلهم عملياً أقرب إلى "الزومبي").
تنطبق نظرية الواقع البديل أيضاً، على العدد الضخم من المفقودين خلال الحرب العراقية، والذين ليسوا أمواتاً ولا أحياء، ولم يتم دفنهم، ما يعني أن موتهم لم يحصل بشكل نهائي. ينطبق هذا، ولو جزئياً، على الكائنات الموجودة في الفيديو، والتي رغم إعدامها بعد أقل من 48 ساعة، إلا أنها ما زالت حيّة بصرياً وضمن وقائع بديلة يمكن تغييرها، كما فعل العيّال. لذلك، وفق الأخير، فإن هذه العوالم المتخيلة والأبواب التي يعبرها الضحايا ومن بينهم والده، تشكل تعويذة للهروب وتغيير المصير، بالإضافة إلى تشكيلها "مدفناً لائقاً" لهم.
يقول العيّال: "لم استطع دفن والدي الذي ما زال مفقوداً، لذلك أودّعه اليوم على طريقتي الخاصة، عبر السفر بالزمن، وقد التقينا في مكان وسطي بيني وبينه، تتشكل معالمه من الأرشيف. هذا المكان أستعمله أيضاً ليكون بمثابة قبر له، ولو أنه قبر متحرك وغير مادي، لكنه كافٍ لتشعر روحه بالسلام".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها