الخميس 2023/10/26

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

بترا سرحال في متاهة الأنفاس والروائح

الخميس 2023/10/26
بترا سرحال في متاهة الأنفاس والروائح
بعدسة إلسي حداد
increase حجم الخط decrease
على مدى أسبوعين، قدمت الفنانة بترا سرحال، عرضاً أدائياً بعنوان "أو حين غفوت لثمانية عشر نهاراً أو ليلاً" ضمن تجهيز فني في مركز بيروت للفن، تناول مرحلة الإنهيار من زاوية مرتبطة بالجسد والعلاقة مع الرائحة. العرض/التجهيز من أول الأعمال الشمّية Olfactory Arts في لبنان التي تعتمد على مسارات بحثية، أنتج خلالها روائح تعبّر عن أفكار ومفاهيم محددة، في سياق أدائي وفني متعدد الوسائط.


خلال ساعة تقريباً اقتادتنا الفنانة في رحلة ضمن متاهة تبدو تكثيفا لمدينة. تألفت المتاهة من فضاءات مختلفة وروائح وأصوات. تخلّلت الرحلة حركة جسدية يتغير إيقاعها من حال لأخرى باختلاف السياقات المكانية الموجودة فيها.

فُصلت الفضاءات عن بعضها البعض بحدود شبه رمزية، عبارة عن جدران قماشية يمكن بسهولة تجاوزها. مع ذلك لم نتخط أياً منها وبقينا محافظين على الانضباط في حركتنا ضمن المسار الذي رُسم لنا: نقف هنا لنشمّ رائحة أو نتحسس جسماً، بينما نتعرض لأصوات حية ومسجلة. تدلّنا الفنانة من وقت لآخر على أغراض، منها أعمال فنية استبدلت المواد والألوان بالروائح.

اعتمدت غالبية الروائح المستخدمة في العرض على تركيبات كيميائية عملت على إنتاجها سرحال بمساعدة اختصاصيين في معهد لتطوير العطور في فرنسا. بعض التركيبات ارتبطت بفضاءات خاصة، نصادفها في المنزل، مثل روائح المأكولات ومواد التنظيف والطبخ. ارتبطت روائح أخرى بأحداث وفضاءات عمومية: إطارات مشتعلة، مواد تطهير، وأمكنة مغلقة.

تضمنتْ الرحلة وصلات أدائية منفصلة، أبرزها عرض قدمته أمام منصة خشبية طلبت منا الجلوس فوقها. كنا نحن في الأعلى، متسلحين بعيوننا على جسدها، بينما هي في الأسفل تحاول الوصول إلى حالة من فقدان السيطرة والتفلت من سلطة المكان والجمهور.

"في أثناء السقوط إلى الجحيم بدأ جسمي بأداء ارتجال حرّ، حركات لأعضائه خارجة عن السيطرة. لكل نوعها شكلها وإيقاعها. سيطر على تنفس أصحاب السلطة والنفوذ، نظموا إيقاعه في سلسلة أحداث مروعة. حبست أنفاسي، مرة تلو الأخرى، ثم من جديد. ابتلعت هذه الأنفاس المحبوسة حتى ما عاد جسمي قادراً على الأرشفة".

استخدمت سرحال الرقص كأداة لتكثيف فكرة فقدان السيطرة و"عدم القدرة على الأرشفة". ضربة على الأرض خلف ضربة، بإيقاع متواصل لفترة زمنية، كفيل بتحويل الجسد إلى آلة تعمل بإيقاع خاص خارج سيطرة العقل.

خلال السنوات الماضية اختبرنا شعور فقدان السيطرة بأشكال مختلفة، إن كان بتأثير صدمة 4 آب، أو المرض والعجز الذي وضعتنا أمامه الجائحة والأزمة الاقتصادية.

ترافق الرقص مع أداء صوتي يعتمد على الارتجاجات البدائية التي تخرج من الحنجرة وأصوات الأنفاس المتتالية التي تعزز الشعور بالخروج من حدود الجسد والتوحد مع الطبيعة المادية للمكان. كانت هذه الأصوات المرتجفة والاحتكاكات كأنها إشارات على تحوّل الجسم إلى قطع صغيرة منفصلة تعمل كل واحدة في علاقتها مع الأخرى.

بعد العرض استُكملت الرحلة من جديد بجولة على فضاءات جديدة اتسمت بنسبة أعلى من الغرائبية التي تجسدت بالعلاقة مع الأعمال الفنية والروائح. أصبح التقاطع بين المؤدي والجمهور أكثر حميمية أيضاً. كأن الفنانة قررت توريطنا أكثر كي نختبر العرض بصفته رحلة شخصية تتعامل مع الرائحة كبوابة الذاكرة والعاطفة.

هكذا وجدنا انفسنا أمام جسد ممدّد على الطاولة. ثبّتت على أطرافه علب صغيرة بدت رائحتها أكثر عضوية من روائح أخرى (نسبة قليلة من روائح العرض اعتمدت على المواد نفسها التي تصدر الرائحة). كنا مجبرين على الاقتراب من الجسد الممدّد كي نختبر المواد الموجودة في العلب قربه، ما جعلنا نبدو كأننا في طقوس شبيهة بتلك المخصصة لغسل الجثّث قبل دفنها. يبقى الفارق أن أدوات التنظيف استبدلت هنا بالروائح والعطور، ما يذكر بالسياق الذي تطورت العطور خلاله كأدوات للتعقيم وإخفاء رائحة الموت خلال فترات انتشار الأوبئة.

لكننا في العرض، لم نكن أمام جسد ميّت. فقد استمرت الفنانة رغم تمدّدها على الطاولة بأداء حركتها التي تقودنا إلى تجارب جديدة. بدأت تدريجياً برش الروائح على نفسها في دعوة لاختبارها. احترنا إن كان علينا الاقتراب أو البقاء على مسافة. بعد وقت، بدأنا بالتناوب، الواحد تلو الآخر على أخذ حصة من جسدها الذي سلّمته لنا ليكون بمثابة وليمة.

2

كانت التعليمات واضحة في الدعوة بالامتناع عن وضع أي عطر. لم أعرف إن كان مزيل التعرّق مشمولاً بلائحة المنع لكني وضعته بكل حال كي أوفّر على نفسي عناء القلق من رائحتي الشخصية.

سُمح بدخول ثمانية أشخاص فقط إلى العرض. حسبت أن ذلك يحافظ على ديناميكية بين طرفي العلاقة: تستطيع الفنانة الإبقاء على سلطتها ضمن الفضاء الذي صممت تفاصيله، بينما يحافظ الجمهور من خلال تفوقه العددي على وهم امتلاك مسافة من الحدث.

حاولت الفنانة الإيحاء أنها تخلّت عن بعض عناصر سلطتها عندما قررت تغطية رأسها وعينيها بمنديل. لكن اتضح بسرعة أن ذلك لم يمنعها من الحركة بحرية كما عزز حواس أخرى أهمها حاسة الشمّ.

خلال المرحلة الأولى من العرض اقتربت منا وتجولت بين أجسادنا. لاحظت بعد ابتعادها أن أحدهم قام بشمّ رائحة إبطه. لاحقاً تملكتني رغبة بالقيام بالأمر نفسه كي اتأكد أن مزيل العرق يعمل بشكل صحيح.

كنت أشعر أيضاً بقليل من التوتر بسبب غرائبية المكان وعجزي عن تحديد جزء معتبر من الروائح. شعرت أنّ توترّي ربما يخرج من مسامي كرائحة كريهة تشير إلى الضعف الذي أحاول إخفاءه.

ذكرني الوعي بالجسم وروائحه، بالموقع الإجتماعي الذي أنتمي إليه. فالرائحة لا تلعب دوراً فقط في تحديد العلاقة مع الذات الفردية، بل أيضاً في الإشارة إلى الثقافة والطبقة (وبالتالي الأفكار النمطية عن النظافة الشخصية). يؤثر هذا الانتماء في القدرة على تفكيك الروائح وفهمها: الرائحة نوع من المعرفة التي نكتسبها ونراكمها بحسب المكان والسياق الاجتماعي الموجودين فيه.

في الوقت نفسه، يبدو طلب المؤدية من الجمهور الامتناع عن وضع العطر، متماشياً مع السياق الذي يتم تقديم العرض فيه، أي المكعب الأبيض الذي يريد إيهام الناس بأنه صفحة بيضاء لا تمتلك أي شكل أو رائحة.

مع كل زيارة أقوم بها إلى غاليري أو مركز فني، تتوارد الفكرة نفسها إلى رأسي، عن العنف اللامرئي الذي يمارسه هذا الفضاء عند ادعائه الانطلاق من الفراغ، بينما في الحقيقة يقدم الأعمال الفنية ضمن شبكة من علاقات السلطة، التي لا يتحرك ضمنها الفنانون فقط، بل تفرض نفسها على كل شخص يدخل المكان.

3
يمكن فهم المشاعر المتضاربة التي اختبرتها خلال العرض بحقيقة جهلي بحاسة الشم وطريقة عملها، بالمقارنة مع معرفة أكبر بالحواس السمعية والبصرية. لعبت الأساطير الموروثة حول ارتباط الرائحة بالاحاسيس أو الغرائز الحيوانية البدائية، دوراً في تعزيز صورة سلبية عن الرائحة انعكست على طريقة تلقي العرض بأكمله.


في الوقت نفسه، يمكن القول إن الجهل بالرائحة ليس سمة شخصية، بل هو حالة معممة تنعكس عالميا في تراجع الأبحاث العلمية المرتبطة بحاسة الشم بالمقارنة بحواس أخرى، والتأخر في تبنّي المؤسسات الثقافية للفنون الشمية.

حتى اليوم، ما زالت المعارض أو العروض المعتمدة على حاسة الشم، نادرة، ضمن المتاحف والمؤسسات الفنية حول العالم. هذا بالرغم من أن الرائحة يمكن أن تؤثر في الإنسان بشكل أعمق من وسائط أخرى، كما تحدد علاقته بالناس والأمكنة، ويمكن أن تغير في الوعي واللاوعي بأشكال لا متناهية.

أحد أسباب الجهل بالرائحة، مرتبط بغياب قاموس لغوي قادر على وصفها وتحديد تأثيرها. ينطبق ذلك أيضاً على لغة الجماليات الفنية المتأخرة عن الفنون الشمّية بشكل عام: هل يمكن إيصال الروائح إلى المتلقي كمفاهيم مجرّدة يتم استقبالها وتفكيكها بطريقة شبيهة باللغة؟

ربما حاولت الفنانة الإجابة عن هذا السؤال من خلال تصميم روائح بشكل خاص، لا تحاول التعامل مع أحاسيس أو ذكريات بل إيصال افكار محددة يمكن فهمها فقط عبر حاسة الشم. لكن لا يمكن معرفة مدى نجاح التجربة سوى من خلال اختبارها بطريقة ذاتية. فالرائحة تتجسد وتؤثر بشكل مختلف عن اللغة ومن الصعب رؤيتها بطريقة موضوعية. في هذا السياق هي أقرب إلى الشعر الذي يقدم نوعاً من المعرفة بشكل أوسع من الحدود النظرية الضيقة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها