الأربعاء 2023/12/06

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

شاعرية المقاومة والاحتجاج في برنامج أفلام "مركز بيروت للفن"

الأربعاء 2023/12/06
increase حجم الخط decrease
ضمن برامج وفعاليات موسم 2024/2023، ينظم "مركز بيروت للفن" عروض أفلام وثائقية من حول العالم، نُسقت من قبل سليم مراد وإيرين بارتولومي. اختيرت الأفلام التي أنتجت خلال السنوات العشر الماضية "بسبب قدرتها على التجريب في الشكل السينمائي" وامتلاكها سمات متشابهة في تصوير أشكال العلاقة المختلفة مع السلطة، بالاضافة إلى "مناهضة أسس القوة المُرساة بطريقة خفية وحميمية وإبداعية" وفق النص المرفق مع المعرض.

أُقرّ البرنامج قبل بدء الحرب على غزة، لكن مع ذلك تبدو أفلامه وثيقة الصلة بما يحصل اليوم. تركّز الافلام على مجتمعات حول العالم تتعامل مع آثار المرحلة الإستعمارية أو تواجه أشكالاً مختلفة من الاستبداد ذي الأوجه العنصرية.

ينطبق ذلك على الفيلم الأول من السلسلة A Night of Knowing Nothing للمخرجة الهندية Payal Kapadia الذي شارك في أسبوع المخرجين ضمن "مهرجان كان السينمائي" 2021 وعرض منذ أيام في مركز بيروت للفن. يوثّق الفيلم الحراك الطلابي في الهند من تظاهرات وإضرابات استمرت أكثر من عام، احتجاجاً على هيمنة الحزب الهندوسي الحاكم (بهاراتيا جاناتا) على الجامعة والمؤسسات الرسمية.

يترافق السرد مع مونولوغ حميمي، لطالبة تخبر يوميات الإحتجاجات بينما تسرد معاناة الخروج من علاقة عاطفية بسبب الضغوط التي يضعها نظام الكاست الإجتماعي. لا تنفصل معاناة الطالبة عن سياسيات النظام الجديد في الهند الذي يفرض أيديولوجيا يمينية متشدّدة على المجتمع والدولة، تعمل على تجميد النظام القائم وإقصاء المكونات الدينية والسياسية المختلفة من البلاد بطريقة عنيفة. 


الفيلم الثاني من السلسلة يتقاطع أيضاً مع السياق الفلسطيني لكن من زاوية ما بعد كولونيالية. يحمل الفيلم عنوان INAATE/SE حيث يتابع مسارات إعادة السكان الأصليين في الولايات المتحدة بناء هويتهم التاريخية بعد قرون من القمع السياسي والإجتماعي بحقهم. يتمحور الفيلم حول شعوب "أوجيبوا"، التي كانت تهيمن سابقاً على جزء ضخم من أراضي كندا والولايات المتحدة، قبل أن تُحجّم وتفقد قسماً كبيراً من تراثها وهويتها الأصلية. صُوّر الفيلم في مدينة Sault Ste المشتركة بين ولايتي أونتاريو الكندية وميتشيغن الاميركية التي تعتبر إحدى المعاقل الأخيرة لأبناء القبيلة.

يقدم الفيلم (إخراج آدم وزاك خليل) لغة سينمائية ديناميكية لا يمكن تصنيفها، تضم الأنيميشن والارشيف والمقابلات الوثائقية التقليدية، بالاضافة إلى مشاهد الفيديو المشوهة والتصميم الصوتي المهلوس الذي يُبقي المشاهد حائراً أمام دفق السرديات التي تمحو الفوارق بين السحري والعائلي والاستعماري.

تبدأ القصة من نبوءة قديمة عند القبيلة تحت عنوان "الحرائق السبعة" تصف بدقة وصول شعوب بيضاء اللون إلى مناطقها كقوة احتلال. تؤكد النبوءة أنه رغم المعاناة التي ستواجه شعب الاوجيبوا بسبب القادمين الجدد، إلا أن "أرواح الأجداد النائمة تستيقظ في النهاية لتعيد قلب مسار التاريخ".

يسائل الفيلم بطريقة نقدية السرديات السائدة عن تراث القبيلة، إن كان بشقها الشفهي المتناقل بين أفراد العائلة والشيوخ والمدارس، أو التراث المادي المحفوظ في الفضاء العام والأرشيف. في الوقت نفسه، يضع الفيلم المؤسسات الرسمية المعنية بالأرشيف في مواجهة عناصر "التاريخ السحري" التي يمثلها بشكل خاص جسم قضيبي هائل في المنطقة يطلق عليه "برج التاريخ" وظيفته حفظ أزمنة القبيلة المختلفة.


ولا يبتعد الفيلم الصيني Many Undulating Things لبو وانغ وبان لو، عن الافلام الأخرى من ناحية تقديمه وجهة نظر تجريبية عن الصراع القائم بوجه الاستبداد. يقدّم العمل الذي ينضوي تحت خانة Essay Film، قراءة هادئة وشاعرية لحياة مدينة هونغ كونغ التي تعيش تغيرات متسارعة على المستويين المكاني والسياسي منذ عقود. ينقسم السرد إلى ثلاثة فصول: "شيطان الماء"، و"هواء الليل"، و"الزجاج الحديدي" تضيء على جوانب مختلفة من حياة المدينة المختفية تحت النزعة الاستهلاكية المبهرجة التي تمثل وهم الرخاء والسعادة.

حاولت السلطات المتلاحقة في المدينة، منذ الإستعمار حتى الحكم الحالي، استخدام استراتيجيات تحاول التحكم في الطبيعة كطريقة لإخضاع سكانها. كانت الرطوبة خلال حقبة الاستعمار البريطاني تمثّل تهديداً شبحياً بسبب قدرتها المزعومة على نقل الأوبئة والأمراض، مذكرة البريطانيين في الوقت نفسه أنهم دخلاء في المنطقة وغير مرحب بهم. دفع ثمن الأساطير الإستعمارية، السكان الأصليون بشكل أساسي، علماً أنّ الرطوبة أصبحت تُرى اليوم كإحدى الحلول السحرية لإعادة الحياة من خلال عمليات تكرير الهواء وتحويله إلى مياه نقية للشرب، وهي عمليات تستفيد منها الطبقات الغنية بشكل خاص التي تعيش وسط مجمعات سكنية منفصلة.

وفق الفيلم تبقى محاولات التحكّم في المناخ مستمرة إلى يومنا هذا، كأداة إخضاع للسكان وهو ما يرصده المخرجان من خلال متابعة أساليب التخطيط المدني والهندسة المعمارية للتحكّم في دورة الحياة في المدينة، في الشوارع ومحطات المترو والمراكز التجارية التي تتغير درجات الحرارة والرطوبة فيها بحسب كثافة المرور والاكتظاظ. ظهر تأثير استراتيجيات الهيمنة بشكل خاص خلال تظاهرات العام 2019 التي واجهها النظام عبر إغلاق المعابر وإجبار المتظاهرين على التجمهر في أمكنة مكتظة، يمكن أن ترتفع الحرارة فيها بسرعة ما يدفع الجمهور للتفرق، علماً أن جزءاً من الإحتجاجات تم تنظيمه في مراكز تجارية وقد قُمِع من قبل السلطة عبر التحكم بدرجات الحرارة في القاعات.
 

ويضم برنامج العروض، فيلمين آخرين، أحدهما الهولندي Odyssey الذي يعالج آثار المرحلة الإستعمارية في هولندا وأوروبا من خلال سيناريو ينتمي إلى الخيال العلمي. يخلق الفيلم نظرة غرائبية إلى المكان عبر تبني وجهة نظر كائنات فضائية تزور الارض للمرة الاولى. تستعمل قصة الفيلم الأرشيف والتصوير التجريبي لمساءلة قدرة الإستعمار على تكريس سرديات معينة لا تزال مهيمنة حتى اليوم. الفيلم الآخر أرجنتيني عنوانه Rio Turbio ويتابع الحياة اليومية في بلدة أرجنتينية تعيش على التنقيب عن الفحم الحجري. يدور الفيلم حول قرار قديم بمنع النساء من الدخول إلى المنجم بسبب أسطورة محلية تتحدّث عن إمكانية انهيار المكان في حال دخول امرأة إليه. يخلق الفيلم بعيون النساء صورة متخيّلة عن المنجم الذي نعرف من الشهادات ظروف العمل المأسوية فيه، بموازاة مجتمع نسائي يحاول الإحتجاج على الهيمنة الذكورية والاقتصادية الممارسة عليه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها