الأربعاء 2020/12/09

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

قاهرة حسن سليمان: لا شعب هنا.. فقط سُكَّان

الأربعاء 2020/12/09
قاهرة حسن سليمان: لا شعب هنا.. فقط سُكَّان
"القاهرة مدينة مليئة بالغبار، واللون يضمحل في سمائها"
increase حجم الخط decrease
1-
مشهد فريد من طفولة الفنان المصور حسن سليمان (1928- 2008) في حاجة إلى تدقيق لأهميته الخاصة في محاولة البحث عن علاقته بمدينة القاهرة، مشهد يُقدم مراراً في الكتابات عن منابع الفن في حياة ذلك الفنان الذي انشغل بالقاهرة أكثر من أي فنان آخر من مجايليه، مشهد يقدم بهذه الصورة الساحرة: "كانت دهشته الأولى عندما كان في الرابعة ودخل مع خاله في مقبرة اكتشفت حديثاً، وكانت الظلمة تغمرها وفجأة مع ضوء عيدان الماغنسيوم فوجئ بحائط المقبرة يموج بالرسوم الفرعونية".

الخال هو العالم الأثري أحمد فخري (1905- 1973)، الذي تخرج في قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة القاهرة في السنة نفسها التي ولد فيه ابن أخته في شارع طه السيوفي، أحد شوارع حي السكاكيني؛ في أحد أحياء الطبقة الوسطى الذي كان يسكنه خليط من الأجانب، وقلة من المصريين.

يصعب تقبل أن ذلك المشهد حدث وحسن في الرابعة من عمره، ليس فقط لأن ذاكرة الطفولة في ذلك العمر ليست قادرة على حفظ مثل هذا المشهد، بل لأن فخري كان قد عاد لتوه من بعثته الدراسية للحصول على درجة الدكتوراه، والتي جاب بها بلجيكا وإنكلترا وألمانيا، وبدأ مباشرة عمله في مصلحة الآثار المصرية. ولأنه يخبرنا في كتاباته العديدة عن الحضارة المصرية القديمة أنه "سكن عشر سنوات (1944- 1954) في منزل بين مقابر أهرام الجيزة على مسافة لا تزيد عن ربع كيلومتر غربي هرم خوفو".

ويذكر فخري في كتابه "الأهرامات المصرية" أنه "في الليالي الحالكة التي يغيب فيها القمر كنت أُحس بأن هذه الكتل الكبيرة السوداء اللون المثلثة، تملأ الفضاء، وتربط بين الأرض والسماء". كما يلاحظ العلاقة الجمالية بين الأثر وبين الثقافة والفن، فيذكر أنه لكي نفهم الأثر، علينا أن نبحث في الوعي والثقافة خلف إنتاجه، وربما تأتي ملاحظته عن طائر "الفونكس" وهو يجثم فوق الـ"بنين"، كما ترد في بردية "أنهاي" المحفوظة في المتحف البريطاني بلندن، ذات دلالة مطمورة في لاوعي الطفل منذ تلك السنوات والتى تحققت في أبرز أعماله التصويرية في مرحلة نضجه الفني.

و"الفونكس"، كما هو معروف، جرت العادة على تسميته بالعربية "العنقاء"، أما اسمه المصري القديم الذي يذكره فخري، فيرجح أنه يعني "البرّاق" أو "اللمّاع"، وهو المعنى ذاته الذي تعطيه اللفظة اليونانية "فونكس" Phoinix، فهي تعني "الألوان الزاهية" نظراً لما عُرف عن ريش هذا الطائر الأسطوري العجيب؛ الذي يبعث من رماده مرة كل خمسمئة سنة، من ألوان زاهية متلألئة. أما "البنين" فهو كما يذكر فخري: حجر مدبب رمز به المصريون إلى التل العتيق الذى برز من "نون" (الماء الأزلي)، أي إلى الأرض التى طفت على وجه الماء، فإذا هذا الطائر يتلألأ فوقها فيملأ نوره الكون، ويخرج صوته فيكون بذلك أول صوت دوّى فـي الوجود ثم تكون "الكلمة".

2-
تخرّج حسن سليمان في قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة، جامعة القاهرة، سنة 1951، وكان مشروع تخرجه حول منطقة عرب المحمدي، وهي منطقة تعد امتداداً طبيعياً؛ وإن كان شعبياً، لمسقط رأسه. بضع مئات من الأمتار تفصل بينهما. من تلك المنطقة، صوّر الفنان الشاب مشاهد المباراة النهائية للتحطيب، ورواد المولد من الطبقة الكادحة والصعايدة، ومعها انشغل بذلك الفضاء المكتظ بالتناقضات. وبعد ثلاثة عقود، وتحولات درامية هائلة، حادة أحياناً، ومتصاعدة ببطء خفي أحياناً أخرى، تنمحي تلك الصور ويطالع حسن سليمان قرار رئيس الجمهورية (أنور السادات)؛ في أيام حياته الأخيرة "إزالة حي عرب المحمدي والمناطق المكملة له". 

وربما منذ ذلك اليوم؛ أو قبله ببضع سنوات، بدأ حسن سليمان تعريف نفسه بأنه "فنان من القاهرة في سنوات عجاف". فالمدينة التي عرفها تذوي وتنحل بعد مرورها باضطرابات صاخبة وخفية يطاردها بمخيلته ووعيه.

3-
انشغل حسن سليمان كثيراً بمختلف تمثلات الإنسان في الأثر والمبنى في العديد من أزقة ودروب وشوارع القاهرة، طبقات فوق طبقات تتراكم ملامح، يذوي بعضها تاركاً وشوماً ووسوماً ورسوماً يطاردها الفنان في الحارات والدروب في القاهرة التاريخية عبر مراحلها المتعددة. يطاردها تصويراً وكتابة، كتابة للسينما في تعاون مع المخرج عبد القادر التلمساني، فيطالعان معا جماليات الزخارف العربية والآثار العربية والإسلامية الباذخة الباقية تتحدى القرون، لكنها تعاني الإهمال والتجاهل.

وفي حديث شجي وعنيف، يتذكر تحولات المدينة "القاهرة"، وتقلبات علاقته بها، من الحميمية الشديدة وصولاً إلى الاغتراب: "في صباي كنت جزءاً منها. أشعر أنني جزء من الزقاق والرصيف والمطعم. أشعر بمعنى الانتماء ومعنى أن نقول الشعب المصري. لكني الآن أصبحت غريباً عن كل مكان وعن كل شيء، وأصبحت أشعر أننا كمجموع لا يمكننا أن نطلق على أنفسنا لفظ شعب. لأننا لا نملك مقومات معنى كلمة شعب، بل الكلمة التي يمكن أن تُطلق علينا هي سكان القاهرة".

4- 
لم يستطع حسن سليمان، في سنوات حياته الأخيرة، حصر عدد المعارض (الفردية والجماعية) التي اشترك فيها بلوحاته، لكنه يجزم أن عدد اللوحات تجاوز الرقم السحري (ألف لوحة ولوحة)، فإذا أضفنا لها كتبه ومقالاته وسيناريوهات أفلامه ومحاضراته وبحوثه فسنجد فيضاً هائلاً من الإبداع في دروب وأشكال وتعبيرات متنوعة للغاية. في هذا كله، شكّل الانشغال بمدينة القاهرة وناسها، العلامة الفارقة ومركز الاهتمام والتفاعل والإبداع.

وهو يُقِرّ، ويكرر، أنه كفنان ظل يتصرف؛ وهو يبدع عمله الفني، من وحي عواطفه وأفكاره. ومع كل تحولاته وخبرته، بدا وكأنه لم يتمكن من تجاوز لحظة السؤال عن غير الموجود، المختفي وراء الظاهر، ليس فقط بمعناه الصوفي، لكن بالأساس لأن الفنان "معذب" من جراء شعوره بالعجز عن الإمساك بالشيء المرئي، وعندما "يتوهم" الإمساك به ويرسمه، يجده وقد أفلت منه. يرنو حسن سليمان إلى "الداخل أكثر من الظاهر، ويملك عيناً فاحصة ومقتحمة، وبصّاصة"، كما يلاحظ بهاء طاهر.

أما سر طغيان اللون الرمادي على لوحاته، خصوصاً تلك المتأخرة منها، والتي يصور فيها مشاهد من القاهرة وأزقتها العتيقة، فينفي حسن سليمان تقليده لفناني البحر الأبيض المتوسط، الذين يستخدمون مساحة الرمادي، كشكل من أشكال ربط الألوان بعضها ببعض. ويلفت إلى أن "الرمادي مزيج من الألوان الأخرى"، لكن للرمادي في سماء القاهرة دلالة أبعد وأعمق من ذلك، فقد بحث طويلاً عن تقلبات الضوء في سمائها، والآن يعجز عن التعرف عليها، فالقاهرة مدينة مليئة بالغبار، واللون يضمحل في سمائها، الشمس الشديدة تلتهم كل الألوان وتحولها ستاراً ضد النور.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها