الثلاثاء 2020/12/22

آخر تحديث: 18:21 (بيروت)

جِنس الذكورية اللبنانية

الثلاثاء 2020/12/22
جِنس الذكورية اللبنانية
من التظاهرات لتجريم التحرش والعنف الأسري في ديسمبر/كانون الأول 2019 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لا شك، ولا لَبس، في العقلية فائضة الذكورية التي تهيمن على السلطة التشريعية اللبنانية، والمؤلّفة من المكونات الطائفية والحزبية، الرجعية والمحافِظة ذاتها، المُمَثّلة في السلطة التنفيذية، وإلى حد كبير في السلطة القضائية.. إلا مَن اصطَفَوا أنفسهم -كأفراد- من التبعية والقوالب. والأرجح أن العلّة الذكورية هذه، هي القضية، بل أُمّ القضايا، التي يُفرَض على المجتمع ككل، وعلى نسائه وأطفاله ويافعيه تحديداً، التعامل معها ومقاومتها إلى أجَل لا يبدو مسمّى. ذلك أن العلاقة معها ما زالت أقرب إلى الحرب المفتوحة التي تُسقط ضحايا وتُسيل دماء وتهدُر حيوات، منها إلى التفاوض والتداول السِّلمي. 

لكن الذكورية مكتملة العناصر، تتمتع بدعامة أساسية لهرطقاتها القانونية، ربما توازيها إجحافاً وتسلّطاً وتسيّداً: السلطة المحضة الللبنانية، والتي تزيدها الأبوية والقَبَلية انمساخاً فوق انمساخها القديم، المتجدد كذروة غير مسبوقة منذ أكثر من سنة.

هذان الجناحان هما اللذان حلّق بهما مجلس النواب، ليسطّر، بحروف أرادها ذهبية، عبارة "للمرة الأولى في لبنان": سواء بقانون يجرّم التحرش، أو بالتعديلات التي أقرّها على القانون الذي أبى إلا أن يسميه "العنف الأسري" بدلاً من "العنف ضد المرأة".

وإذا كانت الذكورية لا جِنس لها.. فالسُلطة، أو التي تمسي سُلطة وفق المعايير اللبنانية المعروفة، لا تُعرَّف إلا بسِماتها، سواء تمثّلت في رجل أو امرأة. هكذا رأينا كيف دقت كل مِن رئيسة "الهيئة الوطنية لشؤون المرأة" كلودين عون، ورئيسة لجنة المرأة والطفل النيابية عناية عز الدين، أجراس الاحتفال بقانون تجريم التحرش. وهو ربما احتفال مُستَحَقّ، لكن شوائبه كثيرة، والمرأة في السلطة لا تراها، بل تُصادِق عليها، مصفّقةً لمجرد أن تلك "البادرة الطيبة" اتجاهها ومعها صارت قانوناً.

تعلم السلطة أن جهات حقوقية خبيرة وطويلة الباع في هذا الموضوع، وعلى رأسها منظمة "كفى عنف واستغلال"، ومنصة "المفكرة القانونية"، ستعقّب، وستفنّد الأفخاخ. هي فاعليات استُبعد أبرزها من النقاشات في مواد قانون تجريم التحرش، ومن حوارات دوائر القرار لتعديل قانون العنف الأسري منذ العام 2014. لكن السلطة لا تأبه. تهنئ نفسها وأهلها ومحلياتها، ويقينها الأزلي أن شيئاً لا يهزها في "بلدها" العاجز المشلول السقيم، إن اختارت أن تدير أُذنَها الصمّاء الوقحة. فكما أن حاكم مصرف لبنان، يخرج على اللبنانيين، كل فترة، بمزحة سمجة جديدة، ولا يتغير في البلد أو في موقعه شيء... وكما أن قانون رفع السرية المصرفية، الذي أقرّ في الجلسة ذاتها مع قانون تجريم التحرش، ليس، بحسب المحامي والباحث نزار صاغية، سوى هَزل درامي بائس يُحتفى به كخطوة أولى على درب الإصلاح.. هكذا تُؤدَّى مسرحية "نحن تقدميون.. ننصر للمرأة.. ونستمع إلى زميلاتنا اللواتي عينّاهن بشروطنا، ودعمناهن في دعمهن لمواطناتهن". المنبع واحد، وليُصِب النساء المعنّفات ما يصيب المال العام وودائع اللبنانيين الطائرة.

والسلطة أيضاً تعكس صورتها في مرآة قوانينها، وهي في دائرة مفرغة مع قواعدها و"جماهيرها" التي تريدها على مِثالها. فبحسب ملاحظات "كفى"، أدرجت مفهوم "سوء استعمال السلطة داخل الأسرة بالقوة الجسدية أو غيرها" في تعريف العنف الأسري. أي أن المُعنِّف، قبل أن يُعنِّف، له الحق في السلطة الكاملة، كربّ أسرة أو عمل، لكن عليه أن يحسن استخدامها، بحسب الأب المشرّع الذي، بحسب "كفى" أيضاً، لم يعدّل تعريف الأسرة ليشمل أياً من الزوجين أثناء قيام الرابطة الزوجية أو بعد انحلالها، بل عدّل تعريف "العنف" بإضافة عبارة "يقع أثناء العلاقة الزوجية أو بسببها". فالمطلَّقة أو الأرملة، أو أي امرأة أو أمّ بلا رجل هو في حد ذاته "علاقتها" بالدولة والقضاء، تسقط عنها شروط الحماية وحقها القانوني في الاقتصاص من المُعتدي عليها وردعه. وطبعاً، إن "زَنَت"، فستعاقَب أشدّ العقاب، لأنها تكون بصدد تزوير تلك العلاقة. وإن اغتصبها زوجها، فحلال عليه، لأن "العلاقة" شرعية، ولا دخل للقانون بين رجل وامرأته جمعهما الله. الجسد المعنَّف، أو الواقع خارج أطر المنظومة، مستباح مُكمّم. شأنه شأن أمثاله من الشعب، معارضين وصنّاع رأي مغاير.

أما المساواة، فعلى الشكل التالي: في قانون تجريم التحرش، مساواة في التظلّم والادّعاء في أماكن العمل وخارجها، بحسب نقد المحامي والباحث في "المفكرة القانونية" كريم نمور، أي "كما لو أننا متساوون أو أصبحنا نعيش زمن علاقات العمل الأفقيّة، فيما الواقع أننا لا نزال محكومين بمنظومة تسود فيها علاقات عامودية وهرميّة، تحديداً في أماكن العمل والعلاقات الأسريّة والحميمية بين الجنسين".. وفي تعديلات قانون العنف الأسري، هي المساواة في حماية كان حرِياً بها أن تُخصص للنساء، أي الحلقات الأضعف.

هي السلطة التي تبدو متماهية مسبقاً مع المرتكب أو حتى مشروع المرتكب، سواء عن وعي أو من دونه، وتساوي نفسها بالضحايا المحتملين/ات، بدلاً من أن تساويهم/ن بها، بقوتها القانونية، كلما حقَّ الحقَّ. هكذا ترى نفسها و"محكوميها"، هي اليد العليا التي يُطلَب حنوُّها ولا تُكَفُّ.

وبالمنطق نفسه، هي السلطة التي، حينما تقدّم "تنازلاً"، ترى من الضروري أن "تُوازنه" بقبضتها الحديدية، فتحيّده عن راحات أيديها التي تنتقي الآن تهميشها، وإلا فهو التراخي الذي لا يحبّذه صاحب الشكيمة، ولا يهضمه. فقد "غلّب القانون (تعديلات العنف الأسري) المنطق العقابي والجزائي من دون الالتفات إلى رغبة الضحايا بالخصوصيّة وحقهنّ في اختيار مسارات تصحيحيّة مختلفة، بعيداً من المسار الجزائي المتّسم بالعلانيّة والمواجهة، ومن دون إيلاء دور يُذكر للقضاء المدني ومجالس العمل التحكيميّة مثلاً"، كما يقول نمور لـ"بودكاست قانوني". ويضيف إن القانون المعدل يكرس "محوريّة مرجع قضائي غير مؤهّل ليكون بيئة حاضنة للضحايا ويتّبع مقاربة أحاديّة جامدة جزائية لا تأخذ في الاعتبار أوضاع المشتكية واستقرار علاقاتها الوظيفية والاجتماعيّة، ولا يحفّزها على التحرّك، لقلّة الخيارات الواقعيّة الأخرى، والتي قد تحتاجها لحماية مصالحها الماديّة والوظيفيّة"... طبعاً، فكل شيء مباح في الحب والحرب.. فكيف إن اجتمعا في قانون لبناني؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها