تعتبر الإقامة الأولى من نوعها، في سياق برامج الدعم الإغاثي التي استهدفت المؤسسات والعاملين في الفن خلال الاشهر الثلاثة الماضية. وقد ركزت الإقامة على اساليب تعزيز الصحة النفسية والعقلية لمساعدة الفنانين على تخطي المرحلة الحالية وإعادة ترتيب حياتهم بعيدا عن الضغوط الحياتية التي تواجههم في لبنان، عوضاً عن تقديم الدعم المادي المباشر لهم.
يقف خلف البرنامج، المنسقة الفنية أماندا أبي خليل التي انتقلت إلى البرازيل قبل سنتين من أجل العمل على مشروع فني وبحثي يتألف من سلسلة معارض وإقامات فنية وتكليفات في مدينتي ساو باولو وريو دي جانيرو، تتمحور حول مفهوم الضيافة والعلاقة بين المضيف والضيف، من زاوية التاريخ المعقد للمهاجرين اللبنانيين في البرازيل (تم تأجيله عدة مرات اولا بسبب احتجاز اموال المشروع من قبل احد المصارف في لبنان ثم لاحقا بسبب انتشار فيروس كورونا).
تستكمل أبي خليل هنا مشروعها الفني الأساسي، حيث تحوّل القالب التقليدي للإقامة الفنية الذي يطلب عادة من المشاركين انهاء منتج فني محدد خلال فترة زمنية، إلى قالب جديد يلغي الإلتزام الفني ويبقي فقط وسائل الراحة والتطوير الذاتي.
اختير الفنانون السبعة من بين 30 اسماً رشحتهم مؤسسات فنية مختلفة عاملة في بيروت، والمفاجئ وفق ابي خليل أن نصف الاسماء المرشحة رفضت المشاركة في الإقامة بالرغم من كل الإغراءات، وهو ما برره البعض بمخاوف متعلقة برحلة الطيران الطويلة، او الخوف من الإصابة بفيروس كورونا.
يمكن ان نستدل على سبب رفض المشاركة في حديث إحدى المشاركات في الإقامة نور سخن التي تخبرنا عن "الذنب الذي شعرت به خلال الايام الاولى في البرازيل عندما فكرت أن هناك آخرين، لا بد يستحقون أكثر منها التواجد في هكذا مكان عوضا عنها"، مع العلم انها لا تزال حتى اليوم تعاني من آثار ما بعد الصدمة بشكل حاد.
تطلق أماندا أبي خليل تعبير "الضيافة الراديكالية" في وصف الإقامة الفنية، وهو مفهوم متعدد المستويات، يستخدم في الفن المعاصر منذ سنوات طويلة، ضمن سياقات مختلفة، بعضها يشير إلى المجال الخاص مثل البيت وغرف الضيافة، التي تتجلى داخلها تراتبيات السلطة بين الضيف والمضيف اللذين يشاركان الطعام والمشاعر والكلام خلال طقوس ضيافة محددة، أو ضمن سياقات مرتبطة في المجال العام كما في السياق الذي تستخدمه أبي خليل في مشروعها الأصلي المرتبط بالمجتمع البرازيلي، المتشكل من اندماج مهاجرين في الأساس، اختلفت علاقات الضيافة بينهم بالإعتماد على عوامل مثل العرق والطبقة واللون.
من المفيد القول ايضاً ان علاقات الضيافة هي جزء من بنى اجتماعية اكبر تكون في حالات كثيرة قسرية، وليست كما توصف كجزء من "طبيعة الإنسان أو حقيقته الطيّبة". كما يمكن ان تكون ايضا "عرضاً أمام الذات او المجتمع لإظهار كم الكرم والحب والقدرة على العطاء التي يتمتع بها المضيف"، وهو الشخص الذي بالإضافة لاستعداده لتقديمه التنازلات لضيفه، يمتلك الأفضلية التي تسمح له بممارسة نوع من العنف الرمزي تجاهه، والتحكم بمصيره خلال فترة الضيافة.
بكل الأحوال استخدام تعبير الراديكالية في الإقامة، أتى بشكل اساسي للتأكيد على حقيقة أنها غير تقليدية وهي تعيد التفكير بمعنى هذا الفعل الإجتماعي والفني، ودوره في عالم الفن اليوم من نواحٍ مختلفة، من بينها مساءلة قدرته على تقديم مكان آمن للفنان وإمكانية الإستجابة لحاجاته الآنية، من دون زيادة الضغط عليه لإنتاج عمل معين. تعتبر الإقامات اليوم عنصراً أساسياً في عالم الفن، وقد اصبحت خلال العقود الماضية جزءا من مسيرة اي فنان للترقي داخل الوسط الفني، مع ان وجودها في عالم الفن يعود إلى القرن التاسع عشر (كانت اقل مؤسساتية وغالبا بقيادة فنانين يرغبون بتنظيم حياتهم بشكل مشترك).
يبقى العنصر الذي يثير التساؤل ضمن برنامج الإقامة هو اضافتها جلسات اختيارية مع اطباء نفسيين، إلى جانب الجلسات الأسبوعية الأخرى مع المنسقين الفنيين والفاعلين الثقافيين البرازيليين (التي تهدف لتوسيع شبكات المشاركين الفنية). الخطر من هذه الجلسات هو ان يتم من خلالها توجيه الإنتاج الفني للمشاركين نحو مكان يختصر تجربتهم بالجانب المتعلق بالصدمة النفسية، وان يعزز من موقع الضحية عند الفنان ويمنع بالتالي من قراءة الجوانب الأخرى المتعلقة بعمله. يعيدنا ذلك إلى المعضلة التي واجهها الفن اللبناني خلال مرحلة ما بعد الحرب، والتي انتقدها فنان مثل وليد صادق الذي رأى ان نظرية التروما سجنت الفن اللبناني في مرحلة ما بعد الحرب، إن كان من ناحية الإنتاج او التلقي، وهذا خطر يهدد الفن اللبناني في الفترة الحالية بما ان هناك اهتماماً لسماع وجهات نظر الفنانين الناجين من كارثة المرفأ.
هنا جزء من حديث الفنانة نور سخن (فنانة صوت وأداء) لـ"المدن" عن تجربتها مع الإقامة الفنية:
"بعد الإنفجار بقيت لأسابيع شبه "مهسترة" واستفرغ يوميا. كانت افكاري مشوشة واسمع خشة في اذني، ما أثار هلعي لأن جزءاً كبيراً من عملي الفني يتمحور حول الصوت. في الوقت نفسه، كانت آلات الصوت أيضاً، لا تعمل بشكل جيد. بقيتُ كل تلك الفترة غير قادرة على التركيز، وأشعر بالقلق الكبير حول المستقبل وما اريد القيام به.
اول انتقالي الى هنا لم استوعب أني خارج لبنان. بقيت العوارض نفسها موجودة، خاصة تلك المتعلقة بالأصوات المحيطة الشبيهة بصوت اطلاق النار والانفجارات. لكن مع الوقت بدأت الأمور تتغير. ساعدني وجود اشخاص مروا بتجربة مشابهة لي، على التأقلم بشكل افضل مع المكان وعلى فهم أكبر لما أمرّ به.
في الاسبوع الثالث أصبح ذهني صافياً اكثر وصرت قادرة على التركيز في مشاريعي الشخصية وانهاء عملي المعلق بشكل أسرع. طبعا بقيت الاصوات المرتفعة قادرة على تحفيز مشاعر الخوف السابقة كما ان الكوابيس لم تتوقف ليلاً، ولو ان مواضيعها تغيرت واصبحت مرتبطة بالمكان الجديد. مثلاً حلمت ان الغرفة الموجودة فيها كانت تحترق، ويدي بدأت تذوب امامي بسبب النار. الغريب ان احد المشاركين في الإقامة معي حلم في الليلة نفسها انه فقد يده ايضاً!".
من المشاركين الآخرين في الإقامة المخرج بانوس آبراهميان الذي بدأ العمل خلال الاسابيع الماضية على مشروع يتمحور حول شخصية متخيّلة لشاب برازيلي من اصول سورية – لبنانية، يقرر الذهاب للمرة الأولى في حياته إلى سوريا من اجل المحاربة إلى جانب صفوف المعارضة. يقول آبراهميان: "ولد هذا المشروع بسبب تقاطع اهتمامات مختلفة عندي، منها دهشتي أمام وجود هذا الكم من البرازيليين من أصول سورية، وتجاه حقيقة انتقال يساريين للقتال في سوريا او في ليبيا ضد الأنظمة القمعية. نحن اليوم في مرحلة تراجعت خلالها حركة اليساريين للمشاركة في الصراعات العالمية، والظاهرة بأكملها لم تعد موجودة بشكل واضح سوى عند الإسلاميين. وجدتُ أيضا بعض المزايا اللافتة عند اليسار الراديكالي البرازيلي مثل الروحانية، التي يراها اليساريون عندنا كقيمة رجعية خاصة بين الأجيال الأكبر سناً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها