الخميس 2019/08/01

آخر تحديث: 20:07 (بيروت)

سوريا في الغاليري

الخميس 2019/08/01
increase حجم الخط decrease
الغاليري الباريسية الصغيرة، لا تستغرق الجولة فيها أكثر من نصف ساعة، لكنها تتمخض عن أسئلة قد تملأ حديث ساعات. هنا معرض فوتوغرافي ضمن مهرجان "Syrien N’est Fait/جاثمٌ لم يمضِ بعد"، لمصورين ومصورات من سوريا.

شبان وشابات أسقطت الحرب في أيديهم كاميرات، وحَميَّة لعلهم ما كانوا يعلمون بوجودها في دواخلهم قبل أن تشتعل البلاد بالثورة أولاً، ثم بالموت المديد. غالبيتهم ممّن تعاونوا مع وكالات دولية، مثل "فرانس برس" و"رويترز"، وكلهم غادر سوريا إلى منافٍ وملاجئ أوروبية. ومن هنا عنوان المعرض: "من سوريا إلى أوروبا: تقاطع نظرات مواطنين صحافيين سوريين"، والفكرة أنهم أتوا بمخزون صورهم السورية، والتقطوا مخزوناً جديداً في فرنسا وغيرها، ويفترض بالمعرض أن يُقاطع نظراتهم تلك، قبل الخروج، وبعده. لكنه في الواقع يفعل أكثر من ذلك، إنه يقاطع هواجس المُرسِل والمتلقي، ولو أن معرفة هذا الأخير مهمة صعبة في هذه الغاليري، وكذا اتخاذ موقع واضح لتصويب النظرات، وبالتالي تكوين حالة ذهنية وشعورية يمكن التعبير عنها إزاء أيقونات الألم التي تملأ الجدران مُطعّمة بلحظات صفاء/اضطراب ما بعد التروما.

هذه صور صحافية بامتياز. نرى مثلها العشرات يومياً، كمشتغلين بالمهنة ووكالات الأنباء نهر نعيش على ضفته، وأيضاً كمتابعين للشأن السوري وكل ما يخرج منه إلى التلفزة والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، بصوره وقصصه وفيديوهاته. هنا الحدث، ولو بعد حين، في كفربطنا وعربين وبستان القصر وحي الأنصاري وغيرها من مناطق حلب والغوطة الشرقية... ما زالت تتمتع بتلك القوة الخارقة، أثر اللّكمة في المعدة، لكنها طوفان نسبح في لجّته منذ ثماني سنوات، ومنذ فترة غير قصيرة بات يجد مساربه إلى الغاليريهات. فهل غيّرت هذه الصور وظيفة الغاليري، أم العكس؟ والأهم، هل غيّرت ناظِرها؟

الصورة الصحافية توثّق. لا يُنتظَر منها الجمال، بل إن "جمالياتها" قد تتطور إلى تهمة، تماماً مثلما إذا خرج شرح الصورة (الكابشن) عن حياد "من؟ متى؟ أين؟ وكيف؟". يفترض بالصورة الصحافية أن ترسل إشارة واضحة: أوقفوا هذا! لكن الإشارة هذه، في الغاليري، قد تتزامن مع أخرى تكاد تكون نقيضها: يا له من مَشهد!

لماذا ننظر؟ هل تُخبرنا تلك الصور شيئاً فعلاً، وهي خارج القصص الصحافية، معلّقة على جدران الفرجة؟ الصورة تسكنك كما الشبح في بيت مهجور، بيد أن وظيفتها ليست الشرح والإفهام، فهذه مهمة النصوص والتقارير والسرديات. الصورة تصدم، وكفى. وقد يفكّر الرائي، للحظة، أنها ليست الحرب، ولا حتى جرائم الحرب وأبطالها المدنيين والنساء والأطفال وعناصر الإغاثة. يخطر له أنها بصمات منظومة، منظومة حكم البعث الأسدي و"قِيمه"، وكاتالوغ ماكينة القتل التي صنعها مع حلفائه. منظومة لا وزن فيها لحيوات هؤلاء، لأنها أصغر من "الوطن" الذي تريدة المنظومة صافية لها، حيوات أخف من وطأة ذاك الوطن، والخفة تتطاير أشلاء وغبار ركام.

ولا يلبث أن يعودك عنوان المهرجان، لا سيما بالفرنسية اللاعبة على كلماتها وموسيقاها، Syrien N’est Fait، أي سمعياً: "إن لم يُفعَل شيء" (Si Rien N'est Fait). كأنه الحث على فعل شيء من أجل السوريين ضحايا نظامهم.. وإلا فهذا الذي ترونه هنا مستمر. والجمهور المستهدف هنا، فرنسي وسوري، أوروبي وعربي، شرقي وغربي. فالحرب، عبر الصور، تمسي "حقيقية". الاحتجاجات على حرب فيتنام، حرّكتها صور. والمواقف من حرب البوسنة سُمِّي مُحرّكها "أثَر CNN". هنا تقاطُع الصحافة والغاليري، الوثائق البصرية والفن البصري. والافتراق عند مفصل أساس: الصور الصحافية، بالتكاثر والتراكم الزمني، تفضي إلى إغراق العيون وتخمتها، وبالتالي ربما إلى تبلّد المشاعر ونمو الاعتياد. فيما الغاليري زمن مستقطع لقاصديه، ومساحة على الهامش ولو امتلأت بقضايا المتن. أما المفصل الثاني لافتراق الصحافة والغاليري، فلعله البصبصة التي يُحكَم بها ناظِر الغاليري، أياً كانت مشاعره، ومهما صعد تضامنه، والبصبصة غالباً ما تكتفي بذاتها لتنتهي فيها.

لكن البصبصة على ماذا ومَن؟ على سوريا المنكوبة؟ على الأموات والجرحى والقائمين من تحت الأنقاض أنصاف بشر وأنصاف آلهة؟ أم على أصحاب الكاميرات، الذين حاولوا استكمال حيواتهم وقصصها في أوروبا؟ ربما هنا تقاطُع التقاطعات كافة. فمنهم مَن بحث عن ثورة متمّمة، فراح يصوّر تظاهرات "السترات الصفر" في فرنسا، حيث "أبطال" بجمال الخُرافات الثورية. ومنهم من سعى إلى ما يتممه كفرد، فصوَّر صديقة ربما كانت لها علامة في الحياة ما بعد السورية. هنا الغاليري تستميت في الحلول محل الصحافة. تريد القول أنها تتتبّع هؤلاء المواطنين الصحافيين، كمواضيع، كل منهم لذاته وحكايته الشخصية، من خلال صورهم الأوروبية. الفن تغيير وتأويل، وهم ما عادوا يوثقون ما هو خارجهم ويجتاحهم ويبتلعهم، بل يعبّرون عن أنفسهم من داخلها وخاصّيتها.

فهل سادت الغاليري؟ أم هي مناكفة الصحافة التي لا ربح سهلاً فيها؟ النقاش مفتوح، والفضاء السوري مغلق على مأساته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها