الخميس 2019/04/18

آخر تحديث: 17:59 (بيروت)

سودانيون وجزائريون..لماذا نعرفهم؟

الخميس 2019/04/18
سودانيون وجزائريون..لماذا نعرفهم؟
من التظاهرات السودانية أمام مقر القيادة العسكرية في الخرطوم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
خلال جلسة أصدقاء، حضرت فيها سيرة سقوط الرئيسين عبدالعزيز بوتفليقة وعمر البشير، وتطورات الحدَثين الجزائري والسوداني، ذهب الحديث إلى فكرة أن التغطيات الصحافية والصور التي جلبتها وكالات الأنباء العالمية نبّهتنا كم أننا لا نعرف الجزائريين والسودانيين. وخصَصنا بالذِّكْر السودانيات اللواتي فرضن أجسادهن وأصواتهن وهتافاتهن على الحيز العام، وبرهنّ عن جرأة وقوة وجمال قيادي مبهر، يبدو أنه كان مطموراً بجلهنا بهنّ أولاً، وبقلّة الحضور السوداني عموماً في ما نتابع. 

وفي غمرة الكلام، تساءل صديق سوري: "ولماذا كنا لنعرفهم؟".

في البداية، قد يتحفّز واحدنا للإجابة بأننا كان يمكن أن نبذل جهداً، إن أردنا ألا ننغلق في بوتقاتنا وقضايانا المحلية والإقليمية. والإجابة بأنهم عرب أيضاً. والمشترك بيننا، حتى من خارج الأدلجة، يدعم مسعى المعرفة هذا، ولو في أوساط النخبة. وأن المعرفة التي تتسرّب إلينا من لقاءات على هامش مؤتمرات التنمية والجندر والحريات، وفعاليات الجوائز الأدبية والفنية، قد تتحول اختزالية، وربما أيضاً تنميطية، رغم الافتراض بأن الهدف الأساس من تلك النشاطات هو كسر القوالب.

لكن، وبعد هنيهات من التفكير، قد لا تبدو بسيطة الإجابةُ على سؤال الصديق. والسبب أن ما بعد "الربيع العربي"، رغم كل الأزمات والنجاحات القليلة والفشل الكثير، ليس كما قبله.

فالحقيقة، أننا، قبل العام 2011، لم نكن، نحن أبناء المشرق العربي، نعرف الكثير مما له وزن، عن تونس وليبيا، ولا حتى عن سوريا ومصر المركزيتين في هذا المشرق. والأمر نفسه قد ينسحب على معرفة المغرب العربي بأطرافه، ومعرفة السوريين بالمصريين، والعكس، ومعرفة اللبنانيين بالبقية، والعكس،... وذلك رغم التشابك العميق جداً، بين لبنان وسوريا مثلاً، ليس فقط بسبب التداخل التاريخي والعائلي والإثني والطائفي والجغرافي، بل أيضاً السياسي والعسكري، في الحرب الأهلية اللبنانية الآفلة، وفي الحرب السورية الراهنة، وبينهما الوصاية الأسدية على لبنان التي تفجَّرَ مطلبُ كسرها مع اغتيال رفيق الحريري، وغيّر الكثير في المعادلات اللبنانية الداخلية، ويبدو أننا اليوم إزاء عودتها.

الثورة السورية، مثلاً، عرّفتنا بمناطق سوريّة لطالما كانت إشكالياتها وحكاياتها المدهشة، مجهولة. وعرّفتنا بشابات وشبان من الصنف الذي لم نكن ندرك -إلا قليلاً- حجمه الهائل وجذوره العميقة، في الفن والسياسة والثقافة والصحافة. بل أكثر من ذلك، لعل الثورة السورية زادت معرفة السوريين ببعضهم البعض، في بلد قطّع "البعث الأسدي" أوصاله وخصوصيات أبنائه لصالح دمغة واحدة وحيدة حُفرت في جِباه الجميع. أذكر كيف أن صديقاً سورياً آخر، من السويداء في الجنوب السوري، أخبرني ذات مرة، كيف دعاه صديقه لزيارة معرض للكتاب في اللاذقية، وذلك قبل عشر سنوات من الثورة. فذهب، ودُهش بالكثير مما رآه وسمعه، وليس أقلّه اللهجة العلوية التي بثت فيه توتراً لا ينساه، رغم أنه كان آنذاك في منطقة لاذقانية سنّية، ورغم أنه كان له أصدقاء علويون في دمشق. غير أن لهجة الأصدقاء بدت مخففة في العاصمة، وكونهم أصدقاؤه فقد كانت القواسم المشتركة بينه وبينهم معبَراً لتجاوز الصبغة الأمنية المرعبة للهجة والناطقين بها.

وكثيرة هي القصص المشابهة التي يرويها سوريون، وربما مصريون تعارفوا في ميدان التحرير وغيره.. وتعرفنا نحن أيضاً على نمط "جديد" من المصريين. وما كانت دروبنا لتتقاطع –رغم كل التلاقح المعروف في السينما والأدب والموسيقى والتلفزيون وحتى الذاكرة السياسية– لولا أحداث يناير 2011 ووسائل التواصل الاجتماعي التي كرّست نفسها واحدةً من أبرز رافعات الثورات. عرفنا هؤلاء جميعاً لأنهم كانوا يفعلون ما اشتهيناه، سرّاً وعلانية، ثورة حقيقية كانت آنذاك، ثم فشلت، لكن الصلة كانت قد انعقدت، وهذا ما لا يمكن إلغاؤه. 



قد يصح القول إن مرحلة صعود القومية العربية، وخصوصاً الناصرية، إضافة إلى غليان القضية الفلسطينية ونشاط "منظمة التحرير"، كانت آخر المراحل التي عرف خلالها العرب بعضهم بعضاً. لكنها، كما يشهد تاريخ الخمسينات والستينات، وأفلامه وأغانيه وحروبه وعقائده، كانت معرفة من فوق إلى تحت، من القيادة إلى الشوارع. معرفة ما يفرضه الأمر الواقع على "الجماهير"، والتي، حكماً، لن يسعهم أن يهضموها إلا فرادى، ولم يهضموها. معرفة الواجب القومي، مناهضة "الاستعمار" وتحقيق المشروع الكبير، الوحدة التي يذوب فيها الكل في الكل، تحت قيادة استبدادية واحدة. ومعرفة مقاومة هذا الذوبان (لصالح قيادة استبدادية أخرى؟)، وحبّه، في آن واحد. معرفة الإيديولوجيا والـ"نحن" التي يجب أن نكونها، أو نرفضها. كانت هناك أيضاً معرفة الغناء والشِّعر والحب، وأحياناً الزواج.. لكنها ظلت استثناءات، والغالب الأعم هو المشوب بالوهم والهذيان الجماعي. 

لكن "الربيع العربي"، الذي يبدو أنه يتجدد الآن، والذي لا يمكن لأحد الجزم إن كان التجدد هذا سيتفادى أخطاء سابقه، يدفعنا اليوم لمعرفة السودانيين والجزائريين، كما عرّفنا من قبلهم بالسوريين والمصريين والتوانسة. وذلك لأننا، على الأرجح، نريد أن نطمئن على أنفسنا، ولأننا بتنا نهتم بما يقوله لنا هؤلاء الأشخاص في الصور. "الكنداكات" السودانيات، الصحافيون الجزائريون، المسيحيون السودانيون، النقابيون الجزائريون، أساتذة الجامعة ورسامو الغرافيتي السودانيون، والمحامون والقضاة الجزائريون.. الأفراد ضمن كل من هذه الفئات وغيرها. نريد أن نعرفهم ونعرفهن، كما عرفنا أصحاب لافتات كفرنبل السورية، لأننا لم نجد إجابات على الكثير من تساؤلاتنا: هل راحت سدى كل التضحيات المتواصلة منذ ثماني سنوات؟ أم أن الأمل حيّ؟ هل راكمت التجربة؟ هل أسس نقدها لتجربة أخرى؟ نريد أن نعرفهم لأننا نرى في وجوههم، كأشخاص لا كحشود، هموماً تشبه همومنا، تحاكيها، ونتماهى معها. إنهم اليوم مرايانا، وغداً يوم آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها