الجمعة 2019/02/22

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

لماذا يترجم آلان بيشوب أغانيه للعربية؟

الجمعة 2019/02/22
لماذا يترجم آلان بيشوب أغانيه للعربية؟
آلان بيشون
increase حجم الخط decrease
لم تصدر فرقة "الأيادي الخفية" أي جديد منذ ألبومها الثاني "تسلم" الذي أطلقته بنسختين إنكليزية وعربية العام 2015، ربما بسبب الدفع الذي شكله صدور عمل وثائقي يتمحور حولها ويحمل اسمها بالإنكليزية The Invisible Hands، الذي أتاح ولادة الألبوم للمرة الثانية خارج مصر وأعطى الفرقة فرصة ترويج نفسها أمام جمهور جديد في أوروبا وأمكنة أخرى من العالم، بموازاة عرض الفيلم ضمن مهرجانات سينمائية، تنوعت بين تلك المتخصصة بالأفلام الوثائقية وأخرى تركز على مواضيع مرتبطة بالموسيقى.

استفادت الفرقة لا شك من الفيلم الذي عرض منذ أيام في متحف سرسق بالتعاون مع Beirut Art Residency  (تستضيف مخرجته مارينا جيوتي في إقامة فنية)، ليس فقط بسبب المرئية التي أمنها لها أمام جمهور نخبوي، بل أيضاً بسبب الصورة المضخمة التي نسجها عنها والتي حملتها ثقلاً سياسياً غير موجود في الواقع، ولا يمكن العثور عليه فعلياً لا في كلمات أغانيها، ولا في خطابها عن نفسها، وقد دعم هذه الصورة مُخرجا العمل - اليونانية مارينا جيوتي واللبناني جورج سلامة - بمواد تشكلت في الأساس من تفاعلات الأعضاء مع بعض الأحداث السياسية التي حصلت خلال التصوير (بين 2011 و2016) ومقابلات أخرى ساءلت مواقفهم السياسية والتقطت شعور الإحباط المهيمن عقب الإنقلاب العسكري ومجزرة إعتصام "رابعة العدوية"، لتصبح سيرة الفرقة انعكاساً لسيرة التطورات الحاصلة في مصر وانعكاساً لها في تلك الفترة.

طبعاً مؤسس الفرقة الأميركي آلان بيشوب الذي عرف سابقاً مع فرقة Sun City Girls كرر مرات عديدة خلال الفيلم رفضه هذا الربط، وفكرة أن يكون هناك برنامج سياسي واجتماعي لأي فرقة موسيقية من الأساس، ما تثبته كلمات أغاني الفنان الأميركي العبثية والأقرب للقصص الخرافية. طبعاً العبثية موقف أيضاً، لكن لا يمكن مقارنته بأي شكل بالبلادة والمباشرة التي اتسمت بها الصورة التي نسجها الفيلم بشكل عام. أكدت آية حميدة، ابنة الفنان محمود حميدة، أيضاً نظرتها السلبية لدمج الفني والسياسي، من خلال سرد قصة افتراقها عن فرقة "إسكندرلا" بسبب ذهاب الأخيرة بعيداً في تلبية مزاج الجمهور السياسي والإجتماعي.


ما جذب الأنظار نحو الفرقة التي تضم، بالإضافة إلى بيشوب وحميدة، كل من شريف المصري، وأدهم زيدان (بسكوت للبلطجية وتوداي إز تومورو)، هو ترجمتها كلمات أغاني قديمة كتبها آلان بيشوب بالإنكليزية خلال الثمانينات، وهي خطوة غير نمطية طبعاً، إلا أنها لم تثر الجدل المتوقع في المقابلات التي أجراها جورج سلامة ومارينا جيوتي والتي ضمت أيضا مقابلات مع أهالي أعضاء الفرقة! فأتت النتيجة مخيبة من جيل يفترض أن يكون أكثر تقليدية من جيل الأبناء. ما يبدو أنه دفع أكثر في اتجاه لجوء المخرجين إلى الحلول السهلة كبديل لا بدّ سينقذ الفيلم، أقله أمام جمهور لا يعرف الكثير عن مصر وتحولاتها السياسية.

في كل الأحوال وبعيداً من الفيلم، يمكن اعتبار ما فعلته الفرقة ناجحاً ومثيراً للإهتمام، حيث استطاعت الترجمة إيصال المزاج الخيالي السحري والدرامي الخاص بالأغاني الأصلية، التي استوحاها بيشوب من الأفلام والشعوذات الشعبية، وهو مزاج في غاية الخصوصية وليس هناك فعلياً من مرادف عربي له. آلان بيشوب شخصية لا تتكرر كثيراً، ولا يمكن إنكار القيمة التي يتمتع بها، وما يمكن أن يضيفه على المشهد البديل في مصر من خلال مشاريعه وتعاوناته التي يستثمر فيها خبرة ثلاثين عاماً من العمل على أنماط موسيقية لا حدود لها ومئات الألبومات التي أنتجها كموسيقي أو كمنتج لشركته Sublime Frequencies المتخصصة في نشر الموسيقى العالمية.

لم يتوقف نشاط بيشوب منذ انتقاله إلى مصر، فهو يعمل مع سام شلبي وموريس لوقا في "أقزام شرق العجوزة" (يعتبر الأول اسماً بارزاً في المشهد الموسيقي الإرتجالي في كندا، أما الثاني فقد عرف بشكل خاص بموسيقاه المتأثرة بالمهرجانات) التي تقدم وجهات نظر جديدة عن الموسيقى الشرقية، كما في عمله المنفرد الذي يستكمل فيه ما كان قد بدأه مع الفرقة الأيقونية "The Sun City Girls" التي توقفت بعد وفاة أحد أعضائها في العام 2005 لكن تأثيراتها وشهرتها لم تتوقف أبداً. عرفت هذه الفرقة بعروضها "الجنونية" وارتداء أعضائها أزياء وأقنعة في كل حفلة، كما في موسيقاها متعددة المصادر التي تتقاطع مع البوست روك والهاردكور بانك والروك المهلوس والجاز الحر والإلكتريكي مع تأثيرات شرقية وآسيوية واضحة في جزء من الألبومات التي وصل عددها لأكثر من خمسين في مسيرة 27 عاماً.


لكن يبقى عمله مع Sublime Frequencies  الأكثر أهمية، بسبب تقديمه وجهة نظر جديدة عن موسيقى العالم، بعيدة كل البعد عن ما يمكن تسميته "إمبريالية ثقافية"، تحاول تشذيب الموسيقى العالمية لتصبح أكثر مناسبة للأذن الغربية، والبعيدة أيضاً عن التوجه الإنثروبولوجي الذي اختصر طويلاً فنون الثقافات العالمية بتلك التقليدية والتي لا يمكن العثور عليها سوى من خلال البحث الميداني. عرّفت الشركة العالم على عشرات الأنماط الشعبية التي استفاد أصحابها من التطور التكنولوجي، وتعيش علاقة مع الموسيقى الغربية تختلف عن علاقة الموسيقى النخبوية بها، وهي الشركة التي أطلقت في الأساس عدة ألبومات لعمر سليمان قبل صعود نجمه لاحقاً، كما أعادت إحياء عمر خورشيد، عازف الغيتار العبقري الذي عزف يوماً مع عبد الحليم وأم كلثوم وأسس فرقة Le Petit Chats، كما نشرت الشركة أعمالاً من الصحراء المغربية وليبيا وموريتانيا وبلدان شرق أوروبا وعشرات البلدان الآسيوية والأفريقية.

سافر بيشوب طويلاً حول العالم متسلحاً بآلراديو، أداته الأساسية للبحث عن موسيقى كل منطقة يتواجد فيها، بعيداً عن علاقة الباحث وموضوعه أو المؤرشف والمادة التي يريد توثيقها. لم يكن دافع بيشوب ربحياً أو سوسيولوجياً، بل أتى كتلبية لرغبته في اكتشاف الثروات التي يحويها العالم، وإغناءً لذوقه المصاب بالملل من الطريق المسدود الذي وصلت إليه الموسيقى الغربية (وفق إحدى المقابلات معه). طبعاً أثارت بعض الأعمال التي أنتجها تساؤلات حول حقوق النشر، لكن في كل الأحوال يبقى نموذجه أفضل بالمقارنة مع الأنماط المبتذلة السائدة اليوم والتي نرى نماذج منها في المهرجانات اللبنانية في كل فترة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها