الخميس 2019/11/21

آخر تحديث: 17:41 (بيروت)

ثورة السلطة

الخميس 2019/11/21
ثورة السلطة
اعتصام وسط بيروت لمنع انعقاد جلسة مجلس النواب (المدن)
increase حجم الخط decrease
للسلطة أيضاً فنونها الثورية، تكتيكاتها، وخططها التي تمزج فيها الثقافي بالمدني والأمني وحرتقات الأجهزة. والمقصود هنا ليس فقط الأدب والخطاب المضاد والموسيقى والتشكيل والسينما والفيديو والتلفزيون والغرافيك.. وليس فقط المزايدة بقولها أن هذه الثورة "ثورتها" من قبل أن تكون للثوار، وأن المطالب مطالبها منذ عقود، على طريقة "لم يتركونا نعمل"، و"هو كويس بس اللي حواليه زعران". هذه السلطة تستعير الكثير من قيم ثورة 17 تشرين، لتستملكه، بوضع اليد والسطو ومفاعيل الأمر الواقع، تماماً كالواجهة البحرية والفضاءات العامة والمشاعات وموازنات الدولة.


خطيرة هذه السلطة، وغبية في الوقت نفسه. استراتيجياتها المكشوفة، بدائية، بل وغالباً طفولية. ورغم ذلك، فإن قدرة ماكيناتها على نشرها وتعميمها، كاتهامات أو حجج تتسلل إلى النقاش العام، سواء عبر القنوات الإعلامية التقليدية، أو على ألسنة "نُخبها"، أو بمساعدة جيوش الكترونية هائلة الحجم والتنظيم، هذه القدرة تضفي على المفضوح إمكانات تأثير ما، ترهيباً أو تشكيكاً، وتُنبت للأكاذيب سيقان تسابق بها البديهيات. لذلك، فلعلّ مهمة فكفكة تلك الأطراف الخشبية، تحيل التسلية المحضة هذه إلى رياضة وطنية، واجب فردي وجماعي يعيد تلك البيادق إلى حجمها الطبيعي كألعاب مستهلكة، أقصى حدود أذيّتها يتمثل في ما تبعثه من ضجر وتثاؤب.

بدايةً، قدسية الصحافة وحرية التعبير واحترام "الرأي الآخر". إذ نجد مراسلي OTV وسائر إعلام السلطة متهافتين على الساحات والشوارع المنتفضة ضد العهد، بأقطابه "كلن يعني كلن"، يبحثون بجدٍّ مدهش عن "الغلط"، "المؤامرة"، "الفتنة". يخترعونها بما تيسّر. ومنابرهم تتهم الثوار، تخوّنهم، تؤبلسهم، تؤستذ عليهم، وتقرّعهم. ثم يُفاجأ أولئك المراسلون بأنهم غير مرحبّ فيهم في الساحات، وأنهم مضطرون لإزالة اللوغو عن الميكروفونات، بل ويشتبكون بمشادات مع الناس على الأرض. ثم يأخذون على مقلب الثورة أنه لا يحترم مهنتهم المزعومة في حين أنهم أبعد ما يكونون عن الصحافة، وفي أحسن أحوالهم أبواق بروباغندا. ولا يني "الأهالي" ينفذون اعتصامات تهويلية أمام مقرات وسائل إعلام متعاطفة مع الثورة، لتهديدها بكل ما يعنيه هتاف "الله، نصرالله، والضاحية كلها".

ثم هناك وعظ الثلة السياسية للثوار بخصوص أهمية التشريع والقوانين والاحتكام للمؤسسات الدستورية، بل وتذهب أبواق السلطة إلى ترويج أفكار عن أن تقويض الجلسة التشريعية الأخيرة مردّه "طبقة وسطى" في وجه الفقراء، فيما قانون العفو العام والورقة الإصلاحية ملغومان ومغلوطان ومضلّلان. الأول، يعطي صك براءة لتجار مخدرات وعصابات، وقد يفسح المجال في المستقبل لإعفاء المعتدين على المتظاهرين بالعصي والسكاكين من أي مساءلة أو محاسبة قضائية، ولربما يصل إلى تحصين المسؤولين الحاليين من أي ملاحقة قانونية بتهم الفساد والإهمال. والحال، أن المظلومين الفعليين الذين يفترض أن قانون العفو اختُرع لأجلهم، يجب أن يحصلوا حقوقهم بالقانون، بجعل الآليات القانونية تعمل كما يجب، بدلاً من شلّها بالكامل لصالح ممحاة العفو العام. أما الثانية، أي الورقة الإصلاحية، فليست أكثر من فذلكة تلاعب بالكلام والأرقام و"الطموحات" بصفر عجز، لا يمرّ على تلميذ يتهجأ ألفباء الاقتصاد. وكل ذلك الحرص على الدستور ومؤسساته، يرافقه الخرق السافر بتأخير الاستشارات النيابية المُلزمة لتكليف رئيس حكومة. والسلطة تبيع الثورة من كيسها حين تقول: شدوا على يدي لتشكيل اللجان النيابية المعطّلة، من دون أن تجيب على سؤال: مَن الذي عطّل هذا التكشيل أصلاً؟ ولماذا؟

ويُحكى عن قطع الطرق باعتباره فعلاً عنفياً.. من دون محاسبة لأي من المعتدين على المتظاهرين منذ 17 تشرين الأول الماضي، وهؤلاء المعتدون صاروا بالعشرات إن لم يكونوا أكثر، آخِرهم أطلق الرصاص من موكب وزير لم تُحدد هويته حتى الآن. وفي هذه الأثناء، يُعتقل متظاهرون، يُعذّبون، ويتم إخفاؤهم قسراً، بل وسقط حتى الآن شهيدان، ولم نرَ مرتكباً واحداً تحت الضوء. ثم تتجلى المخيلة السلطوية تهويلاً بعودة "داعش". تلك النكتة السقيمة السمجة، لكن الفعالة أبداً في بث الرعب. والجيش؟ تحبّه الأحزاب وقوى الأمر الواقع حين يحيّد نفسه عن ارتكاباتها، وترمقه بعين الريبة حين يحمي المحتجين. في 7 أيار 2008 هو جيش وطني، مجيد، مثل ذلك اليوم المشؤوم الذي سقط فيه قتلى وجرحى، وشهد انتهاكات جمّة لكرامات الناس وومتلكاتهم، ولم يُحاسب من بعده أحد. وفي 19 تشرين الثاني 2019، يوم جلسة مجلس النواب فاقد الشرعية والتمثيل، وحين لا ينهال الجيش بكامل قوته على المحتجين على الجلسة، فهو مدعاة أسف وحزن وشكّ، رغم فخاخ عديدة أوقع فيها الجيش ليكون في مواجهة شعبه. وفي كل عيد استقلال، تحتفل السلطة بالعرض العسكري، تغلق من أجله الشوارع، وتقبّل الجنود والضباط فرداً فرداً. لكن ليس في استقلال 2019. ففي هذه السنة، ورغم هنّات عنفية هنا وهناك، تلقّى الجيش وروداً صادقة من مواطنين، وأحضاناً ودموعاً لم تُعدّ للإعلانات التلفزيونية. السلطة الآن عاتبة في أقل تقدير، وفي أقصى تقدير مُحرّضة، ودائماً بشعارات الثورة المسطو عليها.

هي نفسها السلطة التي تتهم الثورة باستعادة تيمات الحرب الأهلية (بوسطة الثورة وجدار نهر الكلب)، وتقول إن "الحراك" في حد ذاته مشروع حرب وفتنة وأجندة دولية. ثم تعيد انتاج سرديتها هذه. تدافع عن التوازنات التي أرستها الحروب الأهلية المتعاقبة، صغيراتها وكبيراتها، ويتكاتف أمراؤها رغم خصوماتهم المعروفة، فيلوحون بإيقاظ الملعونة على طريقة شارع في مواجهة شارع. يتهمون الثورة بما لا قدرة لغيرهم على تحريكه في ذلك الشارع "المضاد".. إن كان لا يزال هناك ما يمكن تسميته كذلك بعد كل ما رأيناه وكبّر قلوبنا، في بعلبك والهرمل والنبطية وصيدا كفررمان وطرابلس وجل الديب والمتن.

يقول ميشال عون: ادعمونا في البرلمان، اضغطوا على نوابكم لإقرار قوانين مكافحة الفساد. يستعير من الثورة مدنيتها ومطلبها للمحاسبة وعمل المؤسسات، في حين لم تتضمن ملفاته الـ17 التي جعلها رايات ملاحقة فاسدين، أي ملف يمس بحليف أو بمسؤول عونيّ، رغم أن وزارة الطاقة وحدها تشكل ملفاً ثقيلاً بالهدر المريب طوال سنوات تعاقب "التيار الوطني الحر" على تولي حقيبتها. وفوق هذا وذاك، فإن الوزراء السابقين والمدراء العامين الذين تم الادعاء عليهم، سيحالون الى محكمة غير موجودة ولم يعين أعضاؤها.

وأخيراً وليس آخراً، كل الهذر عن ارتباط الثورة بسفارات وأجندات دول، في حين أن السلطة هي التي ترسل موفدين الى الدول، روسيا وفرنسا وأميركا، استجداء لغطاء وحلول تبقيها وتطيل عمرها، والثوار هم الذين رفضوا لقاء الموفد الفرنسي.
السلطة تصنع ثورتها بأدوات وكلمات ثورة نشبت ضدها. فن جديد قديم. تافه وشرس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها