من ناحية العوالم، تذكر مؤسسة التوثيق والبحث "آمار" وجود نوعين من الأصوات النسائية في تسجيلات 1904 و1905.
أولاً، تلك التي قدمت طقاطيق خفيفة مخصصة للأفراح، جزء منها ريفي أو ذو طابع خلاعي، يخبر المرأة كيف تقدم جسدها لزوجها ليلة الدخلة (واعترضت بعض الصحف في تلك الفترة على وجود هذا النوع من الإسطوانات التي "لا يفترض أن تصل إلى آذان الفتيات اليافعات والبريئات"). وعرفت بهذا "الغناء البلدي"، بهية المحلاوية، صاحبة "اتمخطري يا حلوة يا زينة"، والمبتدئة حينها منيرة المهدية التي سجلت عشرات الإسطوانات لجميع الشركات. وظل هذا النوع من الغناء سائداً حتى بداية العشرينات، ولم يغنه الرجال بشكل عام باستثناء قلّة، منهم عبد الحي حلمي وعبد اللطيف البنا.
أما النوع الثاني من الأغاني النسائية، فكان لعوالم "أرقى"، قدمن الأدوار والقصائد في مستوى يوازي أحيانأً مطربي الصف الثاني من الرجال، ومنهن أمينة العراقية، أمية العوادة، وأسمى الكمثرية التي عرفت بأدوارها ذات المستوى العالي (لم يكن تعبير "عالمة" ذا معنى سلبي بالضرورة في تلك الفترة، والتحول في معنى الكلمة لم يحصل كلياً سوى في العشرينات).
في الفترة نفسها، دخلت شركة جديدة السوق، هي "أوديون" الألمانية، التي بدأت منافسة مع "غراموفون" لاحتكار أبرز مطربي الصف الأول. بعدها بعامين أو ثلاثة، دخلت أول شركة عربية السوق، وهي "بيضافون" التي أسسها الأخوين بطرس وجبراييل بيضا، أولاد عم مغني المواويل المعروف فرج الله بيضا. وبدأ الثنائي تسجيل الإسطوانات لإبن عمهما في منزلهما بمار الياس (بيروت)، وكان يُكتب على الإسطوانات اسم الشركة مصاحباً لجملة "أولاد عم فرج الله بيضا".
توسعت الشركة بسرعة وافتتحت أبوابها في برلين (المدينة التي تُصنع فيها الإسطوانات) والقاهرة، التي أصبحت بسرعة سوق الشركة الأساسي. عرف عن "بيضافون استعمالها خطاباً قومياً ينادي بكسر الهيمنة الغربية على سوق الموسيقى في العالم العربي، وقد سجلت الشركة أصوات مغنين عرب من مختلف الجنسيات، وافتتحت فروعاً لها في سوريا، العراق، تونس والمغرب. في السياق عينه، يمكن فهم اختيار الشركة رمز الغزال ليكون مقابلاً لرمز الكلب الذي كانت تستعمله شركة غراموفون His Master's Voice البريطانية.
لم يدخل السوق بعد "بيضافون" سوى شركة عربية واحدة هي "ميشيان" التي كانت ملكاً لرجل أرمني مصري يعمل وحيداً في منزله في القاهرة. تعاملت الشركة مع أبرز مغنّي تلك الحقبة، مثل سيد درويش ونعيمة المصرية، وسجلت عدداً من الأعمال المسرحية والحوارات الكوميدية. خلال الحرب العالمية الأولى، انفردت الشركة بتسجيل الإسطوانات في القاهرة بسبب توقف الشركات الأجنبية عن العمل. من نوادر تلك الحرب، انشقاق الفرع الألماني من "غراموفون"، تحت اسم جديد هو "بوليفون"، واستولى على جميع إسطوانات الشركة الأصلية وسوّقها في البلدان العربية مع تغيير اللوغو فقط.
بعد الحرب عادت الشركات للعمل، أولاً في بيروت والقاهرة، ثم لاحقاً دمشق، بغداد، الكويت، والبحرين. هيمنت شركة جديدة على المغرب، هي "باتيه" الفرنسية التي عجزت عن تسويق نفسها في الشرق الأوسط بسبب اختلاف اسطواناتها عن اسطوانات الشركات التي كانت مهيمنة قبل الحرب (في حال أراد أحدهم استعمال اسطوانة "باتيه" كان يفترض أن يشتري فونوغرافاً يتناسب معها). في هذه الفترة ظهر التسجيل على الكهرباء الذي شكل ثورة حقيقية في المجال، وجعل الصوت أنقى وأوضح. أصبح لكل موسيقي، ميكروفون خاص به، بعدما كانت الفرقة تقف بأفرادها كافة أمام الميكروفون (المطرب في الواجهة والآلات منخفضة الصوت بالقرب منه أما الآلات الإيقاعية ففي الخلف).
ولم تكد تمرّ سنوات قليلة على دخول الكهرباء، حتى بدأ سوق الإسطوانات بالتراجع. كانت موسيقى النهضة تشهد أفولاً أيضاً، وبدأ مغنون مثل محمد عبد الوهاب بالتحول نحو أنماط جديدة، تستعير بعض أساليب الموسيقى الغربية التي غزت اسطواناتها المشرق. شكل دخول الراديو فارقاً كبيراً أيضاً، فالآن أصبح في الإمكان سماع مئات الأغنيات من دون الإضطرار لشراء أي اسطوانة، ومع دخول السينما الغنائية إلى المشهد، تراجع بيع الإسطوانات أكثر، وبدأت شركات الإسطوانات بإغلاق أبوابها تدريجياً، فاسحة المجال أمام سحر من نوع جديد ليأخذ مكانها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها