الخميس 2019/01/31

آخر تحديث: 17:46 (بيروت)

بين بريجيت وانتصار

الخميس 2019/01/31
بين بريجيت وانتصار
increase حجم الخط decrease
تنحني بريجيت ماكرون لتنظر في عينيّ طفلة حملت لها باقة زهور ترحيباً بزيارتها إلى القصر الرئاسي المصري. وعلى بُعد ذراع، طفلة أخرى، تحمل أيضاً باقة زهور تقدمها لانتصار السيسي، لكن الطفلة هي التي تُحني رأسها أمام السيدة المصرية الأولى. 

الصورة تصرخ بفارق الأداء بين السيدتين، في لحظة عفوية للسلطة حين تحتك بالرعايا/المواطنين من دون كثير تفكير مسبق. إذ لا يتطلب البروتوكول أكثر من تحصيل الحاصل في ابتسامة وكلمة شكر.. ولهذا بالضبط، تثبت مثل هذه اللحظات أنها أكثر حقيقية وفضحاً مما يظن الرائي للوهلة الأولى.

إعلامياً، لم تُنشر الصورة إلا في جريدة "الوطن" المصرية. الأرجح أن المحرر رأى فيها لقطة لطيفة، لزوجَتي رئيسين مع طفلتين حلوتين، ولم يقصد وضع عبارة الرئيس عبدالفتاح السيسي موضع التطبيق العملي. لكنه، من حيث لا يدري، فعل ذلك وزاد المقولة فجاجة: "أنتم مطالبون بأن ترونا بالعيون المصرية، وليس بالعيون الأوروبية، كما نراكم نحن بالعيون الأوروبية".

قالها السيسي خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، الذي اختتم أخيراً زيارته لمصر. والعِبارة، درّة لم تأخذ حقها من الضوء والتمحيص. وهي واحدة من كثيرات رصّعت ردّه على انتقاد ماكرون الصريح لأوضاع حقوق الإنسان والحريات في مصر، حيث يقبع عشرات الصحافيين والمدوّنين والفنانين والكتّاب وأصحاب الرأي، في السجون، ونسمع كل يوم عن دعوى قضائية جديدة، واعتقالات بإسم "ازدراء الأديان" أو "الإساءة لصورة مصر" أو "الانتماء لمنظمات محظورة" أو "خدش الحياء العام".

السيسي يطالب بأن تُرى مصر بعيون مصرية، بعيون السلطة المصرية، دون مناهضيها "غير المصريين" والذين يمكن نزع جنسيتهم عنهم بجرّة قلم، إن قلّ أدبهم. هي النظرة التي لا وزن لأحد فيها إلا بما يظهره من ولاء وطاعة، وتبرّعات وتقشف في حب البلاد، رغم الفقر والمرض، الفساد وترهل الخدمات الأساسية، والخوف المهيمن. هذا هو المصري، ولا يظنن أحد أنه قد يشابه الأوروبي يوماً. المصريون (كما السوريين والسودانيين..) يعانقون قمعهم الذي يسقط عليهم برداً وسلاماً، لأنه بالضرورة محمولهم الثقافي والحضاري الذي يفتخرون به، وخلعه عار يعرّيهم ويقصيهم من الحظيرة. لأن قوانينهم أقدار، وزعامتهم قداسة، خضوعهم جوهراني في هويتهم، والأمن والنماء لا يكونان لهم إلا في غياب أبسط شروط المواطنة والديموقراطية. وهذه الخلاصة الحزينة هي ركن خطاب "وطني"، نجحت حيث فشل الآخرون، في جعل الشوفينية نكتة مجلجلة بالرثاثة، والاستبداد مشروع عرض "فودفيل" ناجح. عفواً، مسرح "الفودفيل" الكوميدي، فرنسيّ المنشأ.. فلنَقُل: عرض "الجِراب والحاوي" أو "بتاع الثلاث ورقات".

وإذا كانت هذه هي القشرة الخارجية، بديهية المعاني، لفحوى كلام السيسي الذي أصرّ على القول "نحن لسنا كأوروبا ولسنا كأميركا"، وأن "التنوع الإنساني أمر طبيعي وسيستمر ومحاولة تحويله الى مسار واحد فقط غير واقعية"، فثمة طَبقة كامنة تحت هذه القشرة التي تجهد لتبديد الطموح العقلاني بأن نكون مثل أوروبا وأميركا، باعتباره إطلاقاً للنار على قَدَمَي الأمّة. ذلك أن خطاب السلطة المصرية، للمفارقة، يستبطن "الاستشراق" الذي غالباً ما تتحداه وتدينه دراسات ما بعد الكولونيالية التي يلهج بتعاليمها منظّرون ونضاليون من عشاق العالم الثالث "الطيب"، والمتقاطعون مع ديكتاتوريي هذا العالم.

فالمصريون، يقول السيسي، بشر من نوع آخر غير الأوروبيين، ولا يمكن رؤيتهم "بالعيون" ذاتها. قنابل موقوتة بطبيعتهم، قد تنفجر فيهم حرب أهلية في أي لحظة. أعطِهم الحريات والحقوق التي تعطيها للأوروبي، وانتظر كارثة لن ترى مثلها في أوروبا: أنا أعرفهم أكثر منكم، أحكمهم بالجزمة لأحميهم من أنفسهم، وأنا أبوهم الذي يريدونه، سواء وعوا ذلك أو لم يعوه. وأنا الذي لن تستطيع أوروبا أن تكونه لشعب محتاج إلى الحزم منذ الأزل، ولذلك أنا باقٍ إلى الأبد، لأحبّه وأربّيه مع أولادي. هكذا يجب أن تعترفوا بنا، كما نعترف نحن بكم أوروبيين كاملي الأوروبية بقوانينكم ودساتيركم. هذا هو التنوع. تنوع التصنيف، رغم إجماع مديد على قيم إنسانية كونية. تنوع البشر هكذا: نوعٌ هو صورة سلطتي في المرآة وأنا إرادته، وإلا لما كنت لأستمر في موقعي، ونوعٌ تتداولون أنتم مقاليد سلطته. نحن نراكم بالعيون الأوروبية، ولا نفرض "خصوصيتنا" عليكم، ونطالبكم باحترامنا فعاملونا بالمثل!

لا يملك المرء إلا أن يتوقف لبرهة جليلة، مستحضراً قامات مصرية - طه حسين وقاسم أمين والإمام محمد عبده وغيرهم - ممن سافروا إلى أوروبا، لا سيما فرنسا، وعادوا مساهمين في صناعة الحداثة المصرية التي لم يبقَ منها الكثير.  

واليوم، تحتل مصر المرتبة الثالثة في لائحة الدول التي تشتري السلاح الفرنسي، وقد أبرمت القاهرة عقوداً بقيمة 6 مليارات يورو لشراء أسلحة فرنسية منذ العام 2015. علماً أن السيسي أكّد: "لم نستخدم أي معدات -ليس فقط ما اشتريناه من فرنسا- في قمع أي متظاهر.. لا يمكن استخدام السلاح أمام مواطن أعزل ونستخدمه فقط ضد عناصر إرهابية متطرفة". لكن أحداً لم يسأل سيادة الريّس عن معايير التصنيف في الإرهاب والتطرف.. هل تُنظر بعيون أوروبية أم مصرية؟

أما ورش العمل والتنقيب عن الآثار، والتي يبلغ عددها 32 ورشة جارية تحت إشراف المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، فيبدو أن فرنسا تأمل في زيادتها بالحصول على مهام تنقيب إضافية في مواقع أثرية، لا سيما أن الاضطلاع الفرنسي بعِلم المصريات قديم جداً. والأمل، كل الأمل، أن ترى العيون الأوروبية ما يمكنها إنقاذه، كما أنقذت ذات يوم حجر الرشيد وكنوزاً فرعونية شتى.. وإلا كان مصيرها مصير الفرعون الذي كان غارقاً في المياه الجوفية والطين ورُفع بـ"الونش" وأدوات الزراعة، ليوضع على قارعة الطريق حيث لاعَبَه الأطفال وكلاب الحي قبل أن يُغطّى بملاءة تحمل رسم "سبايدرمان".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها