الإثنين 2018/06/18

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

"شجرة الإجاص البري" لنوري جيلان: هكذا تتوارث الأجيال إحباطاتها

الإثنين 2018/06/18
"شجرة الإجاص البري" لنوري جيلان: هكذا تتوارث الأجيال إحباطاتها
سحر الصورة
increase حجم الخط decrease
لا يتخلي المخرج التركي نوري بيلغ جيلان عن أسلوبه في سرد الحكايا، ولا يخشى امتحان صبر الناظرين، إذ يعي تماماً أن مشاهدي أفلامه ومترقبيها، قد هيأوا أنفسهم مسبقاً لدراما تدور في الأذهان وبين العيون. وما غايتهم من المشاهدة، إلاّ الاستمتاع بألبوم الصور الساحرة، والاطلاع على فلسفة البساطة المنطوقة على ألسنة شخصيات الفيلم بتناقضاتها وتبايناتها. تلك هي الوصفة المجربة التي اتبعها التركي جيلان في كل لوحاته السابقة، وحجز عبرها مكانه في مهرجان "كان"، محققاً ثمانية جوائز كبرى في المهرجان العريق، أبرزها السعفة الذهب العام 2014، عن فيلمه "سبات الشتاء". لن يمر إذاً فيلمه الأخير "شجرة الإجاص البري" إلاّ من بوابة "كان"، حيث يتابع من خلاله مشروعه البصري والفلسفي، في قصة محيّرة عن الجيل القادم.

"سنان"، الشاب الذي عاد إلى قريته بعدما أنهى دراسته في مدينة "شاناكاليه"، محملاً بأعباء القادم من التحدّيات، بما أنه تجاوز العتبة التي قد تكون الأمور فيها سهلة نسبياً. ربما لأن القرية لم تعد محيطه المحبب، فلا يبدو عليه الانتماء إلى هذا المكان، ولا الألفة مع من فيه، حتى مع عائلته. أحاديثه مقتضبة، وهي بطبيعة الحال إجابات بالحد الأدنى، عن أسئلة لم تعد تعنيه. لا يبادر، ولا يعرف السلام الحار إطلاقاً، بارد ومتحفّظ حتى مع الفتاة التي سيقبّلها بعد قليل. لكنه رغم ذلك، أنهى روايته الأولى ويستعد لنشرها، ولا يملك المال الكافي لتحمل كلفة النشر. ولا والده المدرّس يستطيع مساعدته.

ملامح العلاقة الفاترة بين الأب وابنه، تُشعَر ولا تُلاحَظ، رغم أن الابتسامة لا تفارق الأب، ولا يظهر تجاه عائلته، وابنه تحديداً، إلاّ الود طوال الوقت، ولا تمر أية لحظات توتّر ظاهر بينهما. إلاّ أن الشاب كما يبدو ليس فخوراً بأبيه، لا يفضل استخدام اسمه كثيراً عندما يحاول تقديم نفسه، في طريقه لتسويق روايته، حتى عندما ينجح في طباعة عدد محدود من نسخها، لا يتحمس كثيراً لإطلاع والده عليها، يتردد في ذلك، ثم يقرّر أن المفاجأة التي يحيكها له بلا طائل. دائرة التواصل مقطوعة بينهما، رغم أنهما يتشاركان العديد من الخصائص، كأي أب وابن. المشهد في بداية الفيلم يلخص هذا الصراع، فالأب والابن والجَدّ يحاولون حفر البئر المتحجّر بلا جدوى، وكل منهم يلقي بالمسؤولية ضمنياً على الآخر.


تمضي ساعات الفيلم الثلاث بلا أحداث كبيرة أو ملامح صادمة، إلا ما يسرّبه إلينا من خيالات وكوابيس شخصياته. مشاهد قليلة قياساً بزمن الفيلم. طويلة مسلسلة، بالتركيبة نفسها تقريباً، تشهد غالباً في الجزء الأخير منها تحولاً واضحاً في مجرى العلاقة، بين بطل الفيلم وإحدى الشخصيات الطارئة، وكأن كل مشهد منها هو محطة في حياة سنان. ففي كل مشهد يكون في مواجهة شخصية جديدة، في حواريات تمتد دقائق طويلة، تشعرك للحظة أنها لن تنتهي إلاّ مع نهاية الفيلم. لن يظهر هؤلاء إلاّ في هذا المشهد، الذي يلخص قصته مع كل منهم، والآثار التي تركوها فيه، لكنهم مروا ولن يعودوا مجدداً. على عكس أمه، وأخته وأبيه، المفروضين قدرياً، وكلبه المفقود، كجزءٍ من ماضٍ لا يمكن تجاوزه، فهو الإخفاق الأول.

لم تجر الأمور على ما يرام، فما زال سنان يصطدم بالإحباطات الموروثة عن جده وأبيه، لكن في أشكال أكثر حداثة: كأن لا تلقى الرواية التي أصدرها أي رواج، ولا سبيل هنا سوى الهروب إلى ما هو أسوأ، بعد عودته من الخدمة العسكرية الإلزامية، وهي تجربة أخرى مرت ولن تتكرر، وتركت بالطبع أثرها الواضح. كل هذا ظاهر في عيني الشاب، الذي أصبح أكثر قدرة على مواجهة أبيه الضعيف، أو ربما لم تعد تعنيه هذه المواجهة كثيراً، ولن توتره. لكن قصاصة جريدة يحتفظ بها والده، تتضمن خبراً عن روايته اليتيمة، ستغير موقفه من والده جذرياً، فالأبناء لا يغفرون لآبائهم الإهمال، إنما يغفرون قلّة الحيلة. بعد هذا، لن يوفر جهداً في مساعدة والده، حتى في حفر البئر المتحجّر، في مشهد ختامي قد نقرأه بأحد وجهين، بحسب موقفنا من جدوى الحفر في الصخر.

كعادته في معظم مشاريعه السابقة، تشارك جيلان مع زوجته "ايبرو" في كتابة السيناريو، وانضم إليهما هذه المرة كاتب ثالث هو آكين آكسو. هذه الشراكة الثلاثية أغنت بشكل واضح المشاهد الحوارية، والتي احتلت هنا مساحة كبيرة جداً بالمقارنة مع مشاريعه السابقة. اللافت والمختلف أيضاً في "شجرة الإجاص البري" دخول عنصر (كوميديا المنطق) إلى مشاهده، وهو ما لم يكن مألوفاً في أفلام جيلان، التي غلبت عليها مسحة جديّة بسبب تراكيب العلاقات بين الشخصيات.
يتعمّد جيلان معالجة هذا النوع المشابهة لملايين القصص المحلّية، ويحمّل القصة العادية الخالية من الأحداث، جملةً من التفاصيل التي تشي بكثير من المؤشرات. هو يقلب الطاولة على أنصار الفعل الدرامي النافر، والأحداث الغريبة والاستثنائية، ويذهب إلى ما هو أصعب وأعقد، فينبش من السكون صدمات وهزات، ومن الملل والرتابة ألواناً. يخوض تحدّيات قد تبعد أفلامه عن الجماهيرية العريضة، لكنها تكسبه بالتأكيد تقدير المهتمين بالمختلف، وتشركه مع عددٍ من فلاسفة السينما في العالم، تداول السعفة الذهب في "كان"، وجوائز المهرجانات الكبرى.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها