في العام 2003، عرض فيلم "طوفان في بلاد البعث" للسينمائي السوري الراحل عمر أميرلاي، الذي ألهم الكثيرين من صناع السينما الشباب في سوريا ومنهم طلال ديركي. وهذا واضح في سياق فيلم "عن الآباء والأبناء" الذي يحاكي في كثير من تفاصيله فيلم أميرلاي الأخير، بدءًا من لعب دور الراوي في الفيلم وجره إلى الذاتية، ليبدو صانع الفيلم وكأنه أحد شخصياته، وصولاً إلى "الخدعة" التي يمارسها صانع الفيلم في التعامل مع أبطاله، بإخفاء النوايا أو إظهار عكسها، ليضمن بوح الشخصيات بكل ما لديها من دون حذر وتنميق. وربما كانت تلك هي الوسيلة الوحيدة ليظهر فيلم أميرلاي إلى النور، وهو الذي أوهم البعثيين في شرق سوريا، أنه جاء ليصور فيلماً على مقاس النظام الذي يؤيدونه، ليثبت العكس عند عرض الفيلم. كذلك فعل ديركي عندما أقنع الجهاديين في إدلب، أنه يتشارك معهم حلم إقامة دولة الخلافة. انطلاقاً من هذه المقارنة، يدافع البعض عن ديركي، باستحضار نموذجٍ لعلم من أعلام السينما الوثائقية العربية، اتبع سابقاً هذا الأسلوب مع شخصيات فيلمه. فمن وجهة نظرهم، يحق لديركي ما حَقَّ لأميرلاي.
الفارق الجوهري بين التجربتين، هو أن ظهور الشخصيات في فيلم أميرلاي لا يعرضها لأية أخطار، ولا لمساءلة قانونية، رغم أنه يظهرها بشكل هزلي ويسخر منها ضمنياً، لكنه لا يقدم ما يدينها. كما أن الشخصيتين الرئيسيتين في فيلمه، وهما ذياب الماشي، عضو البرلمان السوري لسنوات، وابن أخيه، مدير المدرسة والمسؤول الحزبي في القرية التي تحمل اسم العائلة، كلاهما في مواقع مسؤولية، ولا حدود هنا أمام من أراد إحراج من يعمل في الشأن العام. بينما يتعاطي ديركي في فيلمه بطريقة مختلفة مع الشخصيات، حيث يرافق "أبو أسامة" إلى جبهات القتال، ويستمع إلى سيره التي تبارك أعمال تنظيم القاعدة في الحادي عشر من أيلول وغيرها من المواقع. بل ويثبت عليه ارتكاب جرائم أو المشاركة فيها، كقنص أحد المارة، أو المشاركة في تنفيذ الإعدام الميداني لأسرى من جيش النظام، أو تجميع حشوات الألغام ليصنع منها متفجرات ستستخدمها تنظيمات إرهابية، في توثيق صريح لما يدين بطل فيلمه جنائياً وأخلاقياً، أي ما يقترب من وشاية مصوّرة. فيما تلاحق كاميراته وجوه الأطفال الذين ينضمون إلى معسكرات جبهة النصرة، رغم كل التقييدات التي تفرضها قوانين حماية الطفل على هذه المسألة. فكيف تمر هذه المخالفات إلى منصات المهرجانات، وإلى القائمة القصيرة في ترشيحات الأوسكار؟
ميكافيلّياً، يحق لأي صاحب رؤية فنية تقديم ما لديه، بغض النظر عن الرسائل التي يوصلها، والزوايا التي يرى منها الصورة العامة. فهي في البدء والنهاية وجهة نظر تخصه، قد تتقاطع مع أحد وتتنافر مع آخر، ويأتي الحكم على منتجه بمعزل عن النوايا والممارسات والمجريات، مؤطراً في الجدوى والأثر والقيمة الفنية لهذا المنتج. ويمكن الحديث هنا عن بنية درامية متماسكة قدّمها فيلم "عن الآباء والأبناء"، ومسارات واضحة لشخصياته، ومشاعر متناقضة تتسرب إلينا مع كل حدث جديد، في رؤية متكاملة وواضحة كونها صانع الفيلم. لكن حساسية سينما الواقع التي تتناول قصصاً راهنة، تحضر هنا كمتغيّر رئيسي. فالقصص هنا أبطالها من لحم ودم، ولهم حياة مستمرة ما بعد الشارة النهائية للشريط السينمائي الذي روى سيرهم.
قبل سنوات قليلة دار حوار مشابه حول الفيلم الأول للمخرج ديركي نفسه، "العودة إلى حمص"، الذي ظهر فيه الناشط السوري أسامة الهبالي أثناء تغطيته الإعلامية لأحداث المدينة القديمة، قبل اعتقاله بعد أشهر، ثم إعلان مقتله في سجن صيدنايا، ما دفع شقيقته إلى تجديد اتهامها للمخرج طلال ديركي، والمنتج عروة النيربية بالمسؤولية عن مقتل أسامة، بسبب إصرارهما على عرض الفيلم تلفزيونياً، خلال الفترة التي كان فيها الأخير معتقلاً يخضع للتحقيق.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها