الثلاثاء 2018/04/03

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

ما الوثائقي الإبداعي؟

الثلاثاء 2018/04/03
ما الوثائقي الإبداعي؟
النموذج الذي تقدمه نوي مندل لهذا النمط من الوثائقي أصبح نافذاً اليوم
increase حجم الخط decrease
في تعريفها الوثائقي الإبداعي (تقدمه "بدايات" على حلقات)، تقارن نوي مندل، رئيسة المعهد الأسكتلندي للأفلام الوثائقية، بينه وبين الوثائقي الصحافي أو التلفزيوني، محدود القدرة وفقها على رؤية العالم في ما يتخطى السطح، بعكس الوثائقي الإبداعي القادر على "التوجه إلى أعماق الوضع البشري".

هي مقارنة مجحفة ليس فقط بحق التلفزيوني، بل بحق الوثائقي الإبداعي أيضاً الذي يصبح معرفاً بما ليس عليه، ما يذكر بتعريف درج ذكره خلال ثلاثينات القرن الماضي، يقول إن الفيلم الوثائقي هو ما ليس فيلماً خيالياً، ومجال عمله، الواقع الذي يحصل عادة خارج شاشة السينما التقليدية. يعود الكلام نفسه اليوم، لكن باستبدال السينما الخيالية بالتلفزيون، ما يضع الوثائقي الإبداعي رهينة لتعارض جديد، يستبعد قسماً كبيراً من الإنتاج، واضعاً إياه في خانة "رسول المشاعر" بمواجهة الوثائقي التلفزيوني رسول "الحقائق والمعلومات".

طبعاً سبب الإفتراق الأساسي بين النمطين، هو إدعاء الوثائقي التلفزيوني تقديم الواقع، بينما يقدم وجهة نظر المخرج عن هذا الواقع، ما يجعله نمطا فاقدا للسياق غالباً، بسبب إبقائه هوية الشخص الواقف خلف الكاميرا مجهولة، رغم كل ما يمتلكه الأخير من سلطة على المشاهد.
تظهر خلال فيديو "بدايات" التعريفي، مقاطع من أفلام وثائقية من حقبات متفرقة، أحدها للإنثربولوجي والمخرج جون روش، صاحب فيلمChronique d'un été(1961) الذي يظهر في أحد مشاهده جالساً على الطاولة مع شخصياته، يناقش معهم حول موضوع فيلمه، وقد اعتبر لاحقاً أحد أفلام موجة Cinema Verite، التي تحاول قدر الإمكان تعزيز السياق، وجعل منظور المخرج جلياً للمشاهد، وليس صامتاً بشكل مريب خلف أجندة غير واضحة، كما هو الحال مع أنماط وثائقية كانت سائدة يومها، وطبعاً قسم كبير من الأفلام التلفزيونية الحالية.

تركز مندل على أهمية اللغة الشعرية أو"السرد القصصي الذي يعلي من شأن المشاعر، عوضاً من المعلومات". تطلق تعبير"شعر مخصص للصورة"، يؤدي وفقها وظيفة "إيصال الأفكار المجردة والمشاعر اللامرئية التي يمكن أن تبقى مع الجمهور"، معرفاً إياهم على عالم المخرج وواقعه المختلف، ومشكلاً رابطاً بين جميع المسائل والموضوعات التي يطرحها العمل.

تقول مندل: "عندما رسم بيكاسو الثور، بدأ بشكله كما يبدو في الواقع، ثم رسمة بعد أخرى، انتهى إلى أربعة خطوط يظهر فيها قرن الثور وظهره. وذلك من أجل إبراز قوامه الأساسي وقوته. هذا ما يحاول الوثائقي الإبداعي القيام به، أن يتخلص ببطء شديد من كل المقاربات الواقعية للواقع من أجل الوصول إلى إلجوهر".

يتجسد عالم المخرج بشكل أساسي وفق مندل في الشخصية الرئيسية، التي تمتلك القدرة على إيصال ما يرغب فيه، مضفية الحركة داخل القصة، من خلال تطورها في سياق الأحداث الذي ينعكس تطوراً في المشاعر. طابع سياق الأحداث هو نزاعي دائما وفق مندل (بما فيه قصص اللحظات الثلاث أو غيرها)، وصراع يجب حسمه، ليس بطريقة مدوية بالضرورة أو هوليوودية، فهو قادر على أن يكون صراعاً داخلياً ذي تشويق خاص من نوعه، يعطي المخرج فرصةً للتوقف، النظر، والتفكير في كيفية إيجاد حل.

تقدم الكاتبة والمخرجة البريطانية وصفة عمل لكيفية إتمام المرحلة الأولى من صناعة الوثائقي الإبداعي (يطلق عليه تسميات عدة منها الروائي أحياناً أو الفني)، التي تنتهي عادة بكتابة موجز Synopsis، سيحدد "جوهر" المراحل الأخرى التي سيمر خلالها العمل. هو وثائقي ذاتي بشكل أساسي، يكتسب الصوت الخاص فيه أهمية كبيرة، حيث يلعب المخرج دوراً أكبر من دوره في سينما المؤلف، فيصبح هو والمقاربة التي يختارها لموضوعه، جزءاً من الموضوع.

يمكننا القول أن النموذج الذي تقدمه مندل لهذا النمط من الوثائقي أصبح نافذاً اليوم، وهو يخص الزمن الحاضر أكثر من أي زمن آخر (يضعه البعض في خانة  Post Verite المنفتحة على خلط جميع الأنماط التاريخية). يضم هذا النموذج قسماً كبيراً من الأعمال الوثائقية غير التلفزيونية التي تنتج اليوم في العالم العربي. وأهمية سلسلة "بدايات" التعريفية هذه، تكمن في إمكانيه مساعدة المخرجين الشباب على الدخول إلى مجال تعتبر المؤسسة جزءاً منه، كما مؤسسات أخرى متخصصة بالأفلام الوثائقية ومهرجانات وأفراد حول العالم، وهو مجال يزداد انغلاقه على كل حال يوماً بعد يوم، بسبب نمط عرض منتجه المحصور في المهرجانات والفعاليات الفنية، الذي رغم تعزيزه من قيمته الرمزية، يجعله فضاءً أقل ديمقراطية، في زمن يفيض بالمنتجات البصرية المتاحة لأي كان على الإنترنت. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها