الخميس 2018/11/22

آخر تحديث: 13:44 (بيروت)

الاستقلال اللبناني مُرقّطاً

الخميس 2018/11/22
الاستقلال اللبناني مُرقّطاً
من العرض العسكري في الذكرى الـ75 للاستقلال بحضور الرؤساء الثلاثة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
المعلومة بسيطة ومتوافرة: في العام 2017، بلغ الإنفاق من الموازنة السنوية للدولة اللبنانية، على كامل القوات المسلّحة الوطنية، نسبة 16% من إجمالي الإنفاق الحكومي، بحسب "معهد ستوكهولم لبحوث السلام الدولي- SIPRI". وهذه النسبة تفوق، بمرّتين تقريباً، مثيلتها في الولايات المتحدة الأميركية (9%)، وتعادل نحو ثلاثة أضعاف النسبة في الصين (6%)... والبَلَدان معروفان بتصدّرهما الإنفاق العسكري في العالم.

للرقم دلالات كثيرة، يدركها اللبنانيون جيداً. فئة كبيرة منهم تُنشد لها الأناشيد، وتعقد حولها حلقات الدبكة، تقبَلها، أو تتقبّلها، كل بحسب موقعه. علماً أن الحماسة هذه قد تتأرجح بين حَدّين. إيديولوجيا شعبوية لبنانوية، مرفقةً بعَوارض نبذ السياسة وديناميات المجتمع المدني، في مقابل رسم هالة منيرة حول البذلة العسكرية، بكل ما تحيل إليه من مفاهيم مبسّطة عن حماية الشعب، لا سيما تلك التي تُظهّرها الملصقات الاحتفالية حيث غالباً ما يُرمز إلى الشعب بطفل يمسك يد جندي. إضافة إلى فكرتي العنفوان المحض في حب البلاد، والذود عن السيادة التي مازال معناها ملتبساً في العلاقات بين العناصر الداخلية، وبينها وبين الخارج. وصولاً إلى حدّ ما يشبه الإجماع على حِفظ "آخر مؤسسات الانصهار الوطني"، حيث تُرفع العقيدة العسكرية/القومية شعاراً فوق الهويات الدينية والمناطقية والطبقية. وحيث يتم أيضاً استيعاب النظام اللبناني بتركيبته المعروفة: تأمين حصص الأقطاب اللبنانيين، وبالتالي ترسيخ مستوى معين من الاستقرار والاستمرارية، ومعه مكافآت الطوائف لرعاياها المخلصين عبر وظائف وترقيات، كشكل من أشكال اقتسام السلطة والنفوذ (تعيينات المراتب العليا)، وكفرص عمل وتأمينات صحية واجتماعية مضمونة لن يمسّها أحد (المراتب المتوسطة والدنيا)، في بلد ينكمش سوق عمله وتتراجع خدماته العامة كمّاً ونوعاً.

وتكتسب الأرقام منظورها حين نتذكر بأن ثلث الموازنة السنوية للدولة تبتلعه الفوائد على الدَّين العام، فيما تذهب نسبة 10 إلى 15 في المئة من الموازنة نفسها لدعم شبكة الكهرباء المتهالكة. ما يعني أن زيادة الإنفاق العسكري، لا بد أن تؤدي إلى حرمان ما في سائر القطاعات الواقعة في نطاق الدولة. ولعلنا نتذكّر أيضاً أن المعارك التي خاضتها القوات المسلحة، خلال الأعوام الـ12 الأخيرة، من "حرب البارد" إلى عرسال وغيرهما، لم تكن يسيرة، ودفع خلالها العسكريون أثماناً باهظة يُقرّ بها الخطاب السياسي السائد، ويشير إليها بالتضحيات الغالية، وهي كذلك بالفعل. وغالباً ما تدخلت لمؤازرة الجيش اللبناني، مليشياتُ "حزب الله" كجيش موازٍ – نظراً إلى تسلّحه الفريد بين سائر المكونات اللبنانية. ومن نافل القول إن المؤازرة هذه، لطالما كان شرطها تقاطع مصالح الحزب، السياسية والأمنية والاستراتيجية، مع أي حسم لمصلحة العسكر اللبناني في مواجهة "الإرهاب".

غير أن فهم الأسباب الموجبة لتضحيات القوات المسلحة اللبنانية، ليس بالضرورة معقّداً. إذ يكفي التنبّه إلى أن معظم الإنفاق العسكري من موازنة الدولة اللبنانية، يصبّ في خانة "الموارد البشرية"، بحسب دراسة نشرها موقع Synaps. ويلفت التقرير إلى أن الرعاية الصحية، إجازات الأمومة، تعويضات الوفاة..كلها تكاليف توازي 23% من الإنفاق العام على طواقم القوات المسلحة. في حين لا يتعدى الجزء المخصص للمنشآت، والمعدات وصيانتها، واللوجستيات، نسبة 7% في المئة من عموم هذا الإنفاق. لذلك، يعتمد لبنان على الدعم الخارجي لتمويل كل ما لا يتعلق بالموارد البشرية. ومعلوم أن الولايات المتحدة الأميركية هي المتبرّع الأكبر: 250 مليون دولار، في 2017 مثلاً، تدريباً ومروحيات وصواريخ. فالأجندة الأميركية، ومعها الأوروبية، تضع، في قمة أولوياتها، احتواء الإرهاب وتجمّعات اللاجئين، لا سيما السوريين والفلسطينيين الذين يُفضَّل أيضاً ألا يتسربوا إلى الغرب.

اليوم عيد استقلال لبنان. وككل عام، تتمتع القوات المسلحة بالمساحة الأكبر من الاحتفاء، رغم أن للجيش اللبناني عيداً منفصلاً في ذكرى تأسيسه، وكذلك قوى الأمن الداخلي، ورغم أن لبنان ليس دولة عسكرتاريا، ولم تصغه انقلابات ومخططات ضباط كما هو الحال في سوريا أو مصر. علماً أن للجيش مكانة خاصة في مصر وسوريا، ليس فقط بدعم من النظامَين الحاكمَين وبفرض السردية الرسمية لاستقلال البلدين، بل في الثقافة الشعبية أيضاً. إذ يشكل الجيشان قوة اقتصادية قومية أساسية، في قطاعات الاستثمار التجاري والسياحي، وسوق العقارات والبناء، وأشغال البنية التحتية، والصناعة والإنتاج، في القطاعات المدنية كما العسكرية، بصرف النظر عما إذا كانت تلك ظاهرة صحيّة في أي مجتمع. وهذا ما يضع التعبير عن الشعور الوطني اللبناني اليوم في قالب غريب. يُلبَس الأطفال والتلامذة زي الجيش احتفالاً بعيد الاستقلال، بدلاً من تنظيم رحلات مدرسية إلى البرلمان، مثلاً، أو اختراع فاعليات تتمحور حول تاريخ الجمهورية اللبنانية بمؤسساتها وآلياتها الديموقراطية، والمُفترض أنها واجهة لبنان التي يصدّرها فخراً للصناعة الوطنية. قد يقول قائل: أي ديموقراطية في ظلّ نظام طائفي، وفساد مستشرٍ، واستعصاء كتاب التاريخ المدرسيّ الموحّد؟ وقد يُرَدّ على السؤال بسؤال: أي وظيفة للقوات المسلحة.. بعد الرمزية المشتهاة، وغنائية "تسلم يا عسكر لبنان"؟

ربما لا تكون المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية حجر أساس اقتصادي واجتماعي. لكنها، بحسب أرقام 2009، تستوعب نحو 11% من القوى العاملة المحلية، تقريباً 6% منها في الجيش وحده. وللمقارنة: النسبة في الجيش الفرنسي، أحد أضخم الجيوش الأوروبية، بلغت، في 2009 أيضاً، نحو 1%. والجدير بالذِّكر أن الإحصاءات الرسمية اللبنانية ما زالت متوقفة عند العام 2009، بما في ذلك معدلات البطالة التي حُدّدت آنذاك في 6%.

لعل الحيرة لا تطول أمام نجومية العسكر في عيد الاستقلال، حينما توازي استحضار شخصيات الاستقلال ومحطاته التاريخية، بل تكاد تطوي ذلك الفولكلور تحت جناحها. الجيش نقيض الأحزاب ومليشياتها التي صنعت حرباً أهلية مديدة، أسفرت عن تفكك الجيش وانقسامه، وشكّلت قوى أمر واقع، ما زال الكثير منها موجوداً في جُزُر أمنية... حتى بات اللبنانيون يتوقون إلى رؤية شيء من هيبة الدولة على الأرض. وهو ما قد يفسّر الاطمئنان الذي يشعر به الكثير من اللبنانيين لدى رؤية بذلة رسمية مرقطة. شعور لا يخامر المواطن السوري مثلاً إزاء جنود بلاده. شبح الحرب، لم تصرفه من الواقع والمخيلة سنواتُ السِّلم الهش، رغم إعادة توحيد القوات المسلحة اللبنانية ودمج مقاتلي الحرب الأهلية في صفوفها. بل إن أولئك المدموجين، لهم أهل وعائلات ومجتمعات، صارت مرتبطة عضوياً بالمؤسسات العسكرية والأمنية.

مؤسسة الجيش أفرزت ثلاثة رؤساء، منذ إرساء الجمهورية الثانية بأثر من اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب، سواء أعجبنا ذلك أم لا. والتفاف اللبنانيين حول الجيش، هو صورة المرآة لاستحالة التفافهم حول أي مؤسسة وطنية أخرى في ذكرى الاستقلال، والذي – للمفارقة – لم يتحقق بمعارك عسكرية. والأرجح أنه المؤسسة الوطنية الوحيدة التي في الإمكان تسميتها (ويقول البعض: توريطها) في مواجهة الأخطار التي يُسمَح بتسميتها، أي "الإرهاب" وإسرائيل. لكن الإشكالية المزمنة تكمن في كيفية استيعاب المخيال العام لصُور الاحتفالات اليوم، بموازاة العروض العسكرية لـ"حزب الله" في ذكرى عاشوراء قبل أسابيع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها