الإثنين 2018/10/29

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

سحر "الدرون" وقدسيته

الإثنين 2018/10/29
سحر "الدرون" وقدسيته
يفرق البعض بين الدرون "الديني" والدرون "الدنيوي" الذي استخدمه موسيقيون كلاسيكيون
increase حجم الخط decrease
منذ القرن العاشر، بدأت الترانيم المسيحية تشهد تطوراً مهماً، من ناحية الأنغام والطبقات التي تؤديها الجوقة، والعناصر البشرية وغير البشرية التي أضيفت إليها. إذ أدخلت عليها أصوات "الدرون"، وهي عبارة عن نغمة واحدة تعزف بشكل مستمر ومونوتوني، بآلات نفخية أو وترية Tanpura، Hurdy Gurdy، Didgeridoo. وغالباً ما تشهد مساراتها تبدلات ميكرونوتية وهارمونية طفيفة، تنتقل بين الإتساق والتنافر، وتكمن أهميتها في قدرتها على التأثير فيزيائياً في محيطها وفي الأجساد حولها، وذلك بسبب خاصيتها الإرتجاجية (عندما يصل الصوت إلى مستويات غير مسموعة، يبقى الإنسان قادراً على الشعور بارتجاجه).


ورغم  أن المستمع العادي لن ينتبه غالباً لوجودها في الخلفية، إلا أن هذه الأصوات البسيطة، كانت مسؤولة عن جزء كبير من السحر الكامن في الترانيم، لا سيما أن الأخيرة تُعزف في الكنائس التي تعتبر أمكنة مثالية لها، بسبب فضاءاتها الفارغة، وأسقفها المرتفعة، التي تمنع امتصاص الصوت، وتؤدي إلى ارتجاعه كصدى يتردد بشكل دائم خلال زمن الترنيمة. طبعاً التأثير الجسدي يشعر به الموجودون بشكل غير واعٍ، وقد يحيلونه إلى سياقه الديني وطبيعيته غير المادية، أي إلى نوع من الروحانية.


والنموذج المسيحي ليس فريداً، فهناك عشرات الطقوس حول العالم التي استعملت هذه الأصوات لتتلاءم مع عوالمها الروحية، إما من خلال آلات معينة كما في الهند أو أستراليا أو اليابان، أو من طريق تقنيات غناء متطورة، في التيبت وآسيا الوسطى، وهي تقنيات تعتمد على الحنجرة وغير معروفة في العالم العربي أو الغربي. بعض هذه الأديان يرى الطبيعة، الإنسان، والزمن، كلاً متكامل مع الله، لذلك يؤدي النسّاك هذه الأصوات في أمكنة مفتوحة، تسمح بارتداد الصوت بشكل مثالي، كالأودية والمناطق الجبلية ذات التعرجات، وتكون في العادة مقدسة للساكنين قربها. الدرون هنا تظهر بشكلها النقي، وليس في الخلفية كدعم للآلات والأصوات الأخرى كما هو الحال في الترانيم المسيحية، أو لاحقا الموسيقى الكلاسيكية. وبسبب خاصيتها الفيزيائية، تؤدي هذه الأصوات دور صلة الوصل الروحية بين الإنسان، والكائنات الأخرى، كما أنها تتناغم مع مفهوم الزمن كطاقة إلهية مستمرة ولا نهائية، يتساوى فيها الماضي والحاضر والمستقبل.

يفرق البعض بين الدرون "الديني" والدرون "الدنيوي" الذي استخدمه موسيقيون كلاسيكيون، وكلاسيكيون معاصرون، كعنصر خلفي غالباً، قبل أن يدخل في الموسيقى التجارية مع البيتلز وVelvet Undergound، ويصبح عنصراً طبيعياً في مختلف الأنماط الموسيقية اليوم (لكنه يبقى أكثر حضوراً في أنماط بوست روك، دوم ميتال، دارك آمبينت، موسيقى الضجيج، وبشكل عام مع الذين يربطون أنفسهم بالموسيقى البديلة والتجريبية والإختزالية). إلا أن الفارق بين الإثنين (أي الدنيوي والديني) غير موجود فعلياً، لا سيما ابتداءً من ستينات القرن العشرين، حينما ظهرت مقطوعات تتألف فقط من هذه الأصوات، كما هو الحال مع لامونتي يونغ، وموسيقيين إختزاليين وإلكترونيين مثل براين إينو وفيليب غلاس وتيري رايلي وغيرهم، ولم يعد الشكل النقي للدرون محصوراً في الطقوس الدينية.


والمثير أن بعض هؤلاء أعاد قولبة الأفكار الدينية نفسها بأشكال جديدة. فمثلاً، لامونتي يونغ الذي مارس الصوفية واختلط بموسيقيين هندوس، يتحدث عن وجود الدرون في كل جزء من حياتنا المعاصرة، وبأنه افتتن منذ عمر صغير بصوت تمديدات التوتر العالي الكهربائية، ما جعله يضبط تردد (Frequency) مقطوعاته على 60 دورة في الثانية، التي تساوي تردد الكهرباء "الأكثر إلفة بالنسبة إلينا، ويمكننا سماعها أينما ذهبنا في المدينة". كما أنه كرس غرفة قرب شقته في نيويورك، ما زالت تلعب الدرون بشكل متواصل منذ عشرات السنين، وقد قامت زوجته بتجهيز ضوئي يعطي انطباعاً روحانياً واضحاً للمكان، وتساعد الزائر في الوصول إلى حالات شبه هلوسية، وأصبح المكان بمثابة معبد لمحبي هذه الأصوات.

يمكننا إيجاد هذا المسار الديني عند بعض فناني الموسيقى الإلكترونية اليوم، الذين يستخدمون هذه الأصوات بكثرة، وقد شاعت تعابير مثل "موسيقى الفضاء" Space Music، وتشبيه الراقصين بالكائنات الفضائية الذين يؤدون "طقوساً جسدية" ويتحكم بهم "الدي جاي" من موقعه المرتفع بمواجهتهم، داخل قاعة مغلقة ومرتفعة السقف. كما يمكننا إيجاد هذا الطابع بشكل واضح عند محبي الدرون ميتال، مع التركيز على مواضيع ما بعد الموت، الهلاك، واليأس. وقد شبه الروائي الأميركي، جون راي، تجربة سماع هذه الموسيقى بسماع الراغا الهندية خلال زلزال ينهي العالم! كما بمقدورنا الإستفاضة في الحديث عن الطابع الصوفي لموسيقى الآمبينت البطيئة، أو حتى أنماط أسرع مثل الدرون تكنو التي يحتل الدرون موقعاً أمامياً فيها، فتحفز على الرقص بشكل مونوتوني لفترة طويلة، وتدخل سامعها في مشاعر شبه صوفية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها