الخميس 2018/10/25

آخر تحديث: 01:01 (بيروت)

التعزية المَلَكية

الخميس 2018/10/25
التعزية المَلَكية
محمد بن سلمان معزياً نجل جمال خاشقجي (رويترز)
increase حجم الخط decrease
رغم قسوتها وفجاجتها، فإن صورة صلاح جمال خاشقجي، متلقياً "العزاء" في أبيه من القتَلَة، ليست جديدة على عيوننا. الصورة التي ملأت الإعلام، وشغلت الشبكات الاجتماعية، استنهضت مشاعَر عنيفة وشتائم وجدلاً. توالت "الاستدلالات" على أن ابن المغدور جُلب إلى القصر الملكي عنوة أو على عجل، ثم تعمّقت القراءات في نظرات العيون والأيدي المتصافحة. طبعاً مفهومة ردود الأفعال تلك، على أساس أن الفاجعة، بدءاً من القتل ووصولاً إلى التعزية القسرية، لا تنفك تُؤلِم وتُغضِب، فالبشاعة لا يمكن اعتيادها وإلا ذَوَت الإنسانية. لكن الحقيقة أيضاً، أن أرشيفنا فيه ما يكفي من المفارقات الدامية هذه، حتى يكاد المرء أن يقترح مشروعاً "ثقافياً" ينبش كل تلك الصور لجمعها في معرض واحد تحت عنوان: "سياسة".

صورة خاشقجي الابن في حضرة الملك وولي عهده، ملحَمية. صراع بشر وآلهة، وأنصاف هؤلاء وأولئك. هي أيضاً ملصق بروباغندا لسلطان كلّي القدرة، من النوع الذي قد ينتشر بالعشرات في لوحات الطرق. والصورة نفسها، لوحة فريدة عن القمع والفرد وأفق الحرية في هذه البقعة من العالم. صورة صحافية، توثّق تأهب الحارس الشخصي للملك، ويده طوال الوقت على مسدّسه. وعمل فني يختزل معنى الاستبداد والعبث الذي نتنفسه جميعاً مع هواء أوطاننا، في مشهد كثيف من تلقائه، هكذا بلا أي مزاودة إبداعية.

كثُر استحضروا من الذاكرة صورة الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، زائراً الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، بعد اغتيال والده كمال جنبلاط. وصورة رئيس الحكومة (المكلّف) سعد الحريري، زائراً الرئيس السوري الحالي بشار الأسد. وغيرها من الصور والمَشاهد والمرويّات عن القاتل سائراً في جنازة قتيله، في سوريا ولبنان والعراق وإيران ومصر وفلسطين... جرائم، وعُقد شكسبيرية. لكنها أيضاً أدوات لممارسة السياسة في المنطقة، منذ اكثر من ستين عاماً، وما زالت مشحوذة النِّصال. سياسة خوف أو خضوع أو براغماتية، اضطرار أو سياسة الأمر الواقع.. لا تهم التسمية، ولا فرق أياً كان التصنيف. فزعامة موروثة لا بدّ أن تكمل، بأي ثمن، ولا مفرّ من مرورها عبر المهيمن المنتصر، وإلا انتهت إلى الأبد. وهي، من جهة ثانية، سياسة القوي الذي يرهب خصومه، أو مَن تسوّل له نفسه أن يكون خصماً أو ندّاً، يربّيهم بدقّ أعناق القطط المشاغبة، ليلة بعد ليلة، ولا يني يؤكد جبروته إذ يربّت على ظهور أشبال يتامى.

أما الجريمة التي أودت بجمال خاشقجي، ومثلها صورة التعزية الملكية، فلها سِمات خاصة، صارخة بخصائص عصرها ونقائضه في آن واحد.  

سعود القحطاني، الذي يسمي نفسه اليوم رئيس الاتحاد السعودي للأمن الالكتروني بعدما أعفي من بقية مناصبه الأمنية، كان صاحب مدوّنة الكترونية، ثم أصبح قائد جيش الكتروني مكلّفاً بـ"حماية صورة المملكة". اضطلع بمهمة مواجهة "التأثير القطري" في وسائل التواصل الاجتماعي، ودبّج اللائحة السوداء. وفي مجموعة "واتس أب"، تضم رؤساء تحرير الصحف السعودية وأبرز الصحافيين، يُملي القحطاني الخط التحريري. وأخيراً، يبدو أنه أدار الفريق الذي خطف وقتل خاشقجي عبر "سكايب". وحتى خاشقجي نفسه، كان فاعلاً في الوسائط الاجتماعية. ويخبر أحد أصدقائه الشباب، وهو ناشط سعودي مقيم في كندا، بأنهما كانا يخططان لمشروع تمكين الناشطين المعارضين أو النقديين في داخل السعودية في مواجهة أسراب الذباب الالكتروني الطنانة بحمد وليّ الأمر.

بذلك، تبدو "السياسة" في صورة التعزية متعددة الأزمان. زمن القرن العشرين، حينما كان الحاكم يأمر بالتصفيات من دون أن يشغل باله بالتداعيات. وزمن ثورة الاتصالات، التي قيل ذات يوم إنها ربيبة "الثورات العربية"، قبل أن تستحوذ السلطة أيضاً على مفاتيحها. وقبل هذا وذاك، زمن البداوة والعشائر، لمّا كانت المقتلات تُسوّى بعَقد الرايات وتبويس اللحى ودفع الديّات.. وهذه جريمة نفّذت بمنشار في مقرّ دبلوماسي، بعدما صاح القحطاني بعصابته "هاتوا لي رأس الكلب". كأنما آلة الزمن أصيبت بمسّ. 

"السياسة" هذه المرة، في الصورة والجريمة، تُمارس في زمن صحافة تقليدية عالمية، منيرة ومشرّفة وكثير منها مستقل، رغم كل ما قيل في أنه زمن احتضارها. واللحظة السياسية عينها، ممهورة في الوقت ذاته، بهجمة غير مسبوقة على الصحافة الجادّة، في العالم العربي والإسلامي طبعاً، لكن أيضاً في أميركا حيث تتلألأ عناوين "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، ثم يمتدح رئيس البلاد مُشرِّعاً اعتدى على صحافي، وتجد مَن يلصق على زجاج سيارته عبارة "قاتِل من أجل الحقيقة.. هاجِم صحافياً".

التعزية الملكية في جمال خاشقجي، صورة تضاف إلى أرشيف أسود. لا جديد فيها، ربما، لكنها الأكثر سطوعاً ببؤس أزمانها كلها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها