الجمعة 2018/10/19

آخر تحديث: 11:12 (بيروت)

متحف غير مرئي في مواجهة متحف غير موجود

الجمعة 2018/10/19
increase حجم الخط decrease
كما جميع المؤسسات الثقافية المرتبطة بالدولة، ابتداءً من المكتبة الوطنية التي يبدو وكأنها شيّدت لنتفرج عليها من الخارج فقط، ومؤسسة الأرشيف الوطني المنسية في أحد مباني الحمرا، يبدو المتحف الوطني غير موجود، ولا يثير رغبة في الدخول إليه في حال مرور أحد بقربه، رغم موقعه المركزي في بيروت، وضخامته، وحضوره الطاغي على المساحة التي يقع فيها.  


هذا ما تثبته إدارة المتحف نفسه، التي تتحدث عن مرتادين هم في الغالب سياح أجانب، وطلاب مدارس يشعرون بالضجر، ما يجعل منه مساحةً مفرغةً من أي معنى لسكان المدينة، أو على الأكثر مساحة تخص بعض الطارئين عليها فقط. طبعاً المتاحف على أنواعها تعتبر أمكنة غير شعبية، وتتوجه إلى فئات ضيقة إجمالاً. لكن المتحف الوطني تحديداً، وبعكس المتاحف الخاصة المتكاثرة هذه الأيام في بيروت، يبدو وكأنه لا يتوجه إلى أي فئة شعبية، ولا نسمع إلا نادراً عن تنظيم حدث داخله، كأنه فاقد لأي ارتباط مع الحاضر اللبناني والزمن الحالي. ليس فقط لأنه يتعاطى مع فترة زمنية تنتهي في منتصف القرن التاسع عشر (وهي الفترة التي يبدأ فيها التأريخ للأعمال الموجودة في متاحف أخرى في لبنان)، بل أيضاً لأن مقتنياته الرومانية واليونانية والفينيقية والمملوكية وغيرها، فاقدة لـ"السياق الحضاري" مع سكان هذه البلاد، رغم الشعبية التي تمتلكها فكرة الأصل الفينيقي عند البعض، ورغم أن مقتنيات المكان وجدت غالباً على الأراضي اللبنانية.

وهذا بعكس المتاحف الوطنية في بلدان أوروبية، التي تبدو كأنها تمتلك صلة أكبر مع واقع تلك البلاد، وبعض مقتنياتها ما زالت تمتلك شرعية، وصلة فكرية وفلسفية وسياسية مع المجتمعات الحديثة. بالإضافة طبعاً إلى أن نشوء هذه المتاحف أتى في سياق أوروبي بحت، أولاً كرد فعل على صعود الحركات القومية في هذه البلدان، وثانياً لأنه أعقب حقبة بحثية طويلة وتقاليد فنية مرتبطة بالمنحوتات الرومانية واليونانية. وقد أتى افتتاح متحف بيروت بمبادرة من سلطات الإنتداب، التي افتتحت في الوقت نفسه متاحف في فلسطين والأردن، وكانت نواتها جميعاً، كما متحف بيروت، مجموعات خاصة لدبلوماسيين فرنسيين وإنكليز.


للمرة الأولى، يحاول أحدهم ربط المتحف بالمدينة التي يتواجد داخلها، وذلك من خلال دليل صوتي تحت عنوان "متحف Mathaf شو هيدا"، شاركت فيه عينات عشوائية من سكان المدينة، وسيرافق مرتادي المتحف خلال زيارتهم طوابقه الثلاثة، لشهور مقبلة. اقترح الدليل معاني جديدة للمنحوتات والأغراض الموجودة في المتحف، لا صلة لها بوظيفة القطع الأصلية أو المعنى التاريخي لها ولا تأتي على ذكرها. ترتبط هذه المعاني بالأفراد الذين يشاهدون القطع، من خلال تخيل سيناريوهات وقصص لها، مرتبطة بالحاضر والواقع الإجتماعي والسياسي الذي يعيشه هؤلاء الأفراد. المبادرة طبعاً ليست من إدارة المتحف، بل من إدارة متحف خاص سيفتتح أبوابه مستقبلاً في مواجهته (متحف بيروت للفن "بيما")، ولذلك دلالة مهمة على صعود نوع من الممارسة المتحفية بمواجهة نوع آخر، والصعود المتسارع للمتاحف الخاصة الذي يشهده لبنان والعالم.

الدليل من إعداد أنابيلا ضو، وبالتعاون مع "المنصة المؤقتة للفن" (TAP)، وقد شارك فيه الممثلان جوليا قصار وجورج خباز، غالباً لأن صوتيهما أليفان نسبياً لدى الجمهور. يقول الدليل في بدايته: "أشخاص من بيروت تحدثوا مع/عن/وبلسان مجموعة من الأغراض لكشف شيء من الحاضر من دون الإفصاح عن أي سردية تاريخية". المهم في الدليل أنه يعطي معنى للفضاء المكاني أيضاً، وليس فقط للقطع الـ25 التي يتطرق إليها. على سبيل المثال، يقول أحد المشاركين عن تمثالين لرجل وامرأة أنهما يبدوان له وكأنهما يمتلكان المكان، وهذا ما يحفزه موقعهما المميز بين القطع الأخرى، ومواجهتهما لتمثالين لا يمتلكان أي ملامح. ويقول آخر إن تمثالاً لرجل يوناني ممدد على الأرض، يبدو له وكأنه يكره الإلتزام بالقوانين ويحب شرب الكحول، ويريد الخروج من الغرفة الزجاجية التي يقبع داخلها. وينظر أحدهم إلى وجه أحد التماثيل، ليتخيل ما يفكر فيه، وآراؤه عن الأشخاص الذين يتفرجون عليه يومياً، وشعوره بالوحدة وأنه ضيّع سنوات كثيرة خلال حياته.

يواجه المشاركون أسئلة الموت والوجود عند تحدثهم مع ناووس فينيقي، بعدما طرح عليهم معدو الدليل سؤالاً عما قد يكتبونه مكان الأحرف المنقوشة على حائط الناووس الخارجي. وقد أتت إجابات الأكثرية ساخرة، في محاولة للإلتفاف على السؤال نفسه. وربما تكون أبرز المعالجات، تلك التي توجهت إلى منحوتة تمثل يداً، فأبدى كل مشارك رغبة خاصة نحوها، فأحدهم أراد مصافحتها، وآخر وضع خاتماً في أحد أصابعها، وأراد أحدهم تقبيلها، وآخر الإكتفاء بوضع يده عليها. يعيد المشاركون خلق الواقع والعلاقات الإجتماعية التي ينتمون إليها داخل المكان، كما يضعون القطع الأثرية والمجوهرات والتماثيل ضمن أنظمة المعاني واللغة والقيم التي يمتلكونها، كأنها قطع معروضة في غرف الجلوس في منازلهم، أو كأنها أشخاص حقيقيون هم أصدقاء لهم أو انعكاس لذواتهم، لا فرق.

يأتي المشروع كجزء من مشاريع عديدة يعمل عليها متحف "بيما"، في المكان الذي يفترض بناؤه فيه، ضمن نطاق الجامعة اليسوعية، وتهدف إلى "السكن" في المكان والتمدد فيه قبل إنشاء المتحف. ويعمل على المشاريع الأخرى فنانون من لبنان، لتكون جزءاً من مجموعة المتحف الدائمة مستقبلاً. أما العناوين التي ستعالجها المشاريع فهي: "تعزيز الثقافة المتحفية"، و"إجراء حوار بين المجموعة الأركيولوجية التي يمتلكها المتحف الوطني وتلك المعاصرة التي يمتلكها متحف بيما"، كما تهدف إلى خلق "تواصل مع منطقة المتحف" التي كانت المعبر الأساس بين شرق بيروت وغربها خلال الحرب، وقد نشأت في الأساس بسبب تواجد الجامعة اليسوعية، أما اليوم فهي مربع أمني بسبب تواجد السفارة الفرنسية والأمن العام في منطقة المتحف نفسها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها