الأحد 2014/02/23

آخر تحديث: 01:16 (بيروت)

أعمال حامد عبدالله في بيروت.. يوميات مصر والحداثة

الأحد 2014/02/23
أعمال حامد عبدالله في بيروت.. يوميات مصر والحداثة
increase حجم الخط decrease
آن أوان للاحتفاء بالتشكيلي المصري حامد عبدالله (1917-1985)، ونفض الغبار عن أحد الرواد الذين لم ينالوا حق قدرهم حتى اليوم. هذا ما تشير إليه الفعاليات الفنية المختلفة التي عقدت في مصر، خلال الأيام الماضية، والمزمع عقدها في الخارج أيضاً، وبينها غاليري "أجيال" في بيروت الذي يستضيف أعمال حامد عبدالله من 25 شباط/فبراير الجاري وحتى 15 آذار/مارس المقبل.

أدركت أسرة الفنان الراحل، قبيل الذكرى المئوية لميلاده، حجم الإرث الفني وقيمته، الذي خلفه وراءه ويتجاوز الـ1400 عمل، لاقت اعتراف البلدان الاوروبية، خصوصاً في باريس حيث أقام 20 عاماً في منفاه الاختياري حتى وفاته، لكنها أعمال لا تزال مجهولة بين الأجيال الجديدة، بل ومن جمهور مواطنيه بشكل عام. هكذا، حرصت أسرة الفنان، بمعاونة الخبير الفني كريم فرنسيس، أن تنطلق أولى المحطات من أرض مولده، فكانت أولى هذه الفعاليات معرضاً فنياً في متحف الفن الحديث بالقاهرة، يجمع 27 لوحة هي من مقتنيات المتحف القابعة في مخازنه، والتي رأت النور أخيراً في معرض يستمر حتى الأول من مارس، فضلاً عن إصدار كتاب مونوغرافي مصور، بالعربية والفرنسية والانجليزية، يسرد حياة الفنان ومراحله الفنية ويجمع كتاباته وقصاصات صحف والنقد الفني الذي تناوله، وحررته الكاتبة رولا الزين. وإلى جانب الإعداد لمعرض استعادي ضخم يقام في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في القاهرة، يشارك كريم فرنسيس في "سوق دبي الفني" بمجموعة من لوحات عبدالله.

فعلى مستوى سوق الفن العالمي، يثمن فرنسيس أعمال عبدالله، ويقارن قيمتها بأعمال كل من عبد الهادي الجزار وحامد ندا. أما على الصعيد الفني، فيؤكد الفنان ناصر السومي، صديق عبدالله الذي شاركه في العديد من المعارض العربية من أجل نصرة القضية الفلسطينية، على الدور الريادي للفنان: "أعتبر حامد عبدالله فناناً رائداً، لأنه  كان دائم التجديد في مراحله الفنية المختلفة، و إذا ما قارنّاه بمعاصريه، ليس فقط من العرب بل من الفرنسيين أيضاً، لما وجدنا من استطاع مثله أن يحافظ على نفس هذا الوهج ويحفظ روح التجريب والمغامرة الفنية على مدى خمسين عاماً كاملة".

فنان الحداثة بامتياز
انشغل حامد عبدالله منذ بداياته بقيم الحداثة في تناوله للحياة اليومية، في شوارع ومقاهي حي المنيل بالقاهرة. ولم يكن ذلك غريباً عليه، وهو ابن عائلة من الفلاحين، تلقى تعليمه الأول في الكتاتيب، والتحق بقسم الحديد المشغول بكلية الفنون التطبيقية ليصبح حرفياً ماهراً كما أراد له والداه. ثم انكفأ إلى الرسم بكثافة، وشهد المقهى الشعبي بمنيل الروضة العديد من رسومه التي انطبعت بالموروث الفرعوني والقبطي والإسلامي. ورغم حداثة سنه آنذاك (20 – 22 سنة)، أكدت أعماله المائية في تلك الفترة (1937- 1939) أنه كان متقدماً على ما كان معروفا في مصر في تلك الفترة، كما كتبت رولا الزين في كتاب "الرسام عبد الله"، إذ كان يبحث ويجرب لكي يتمكن من الذهاب بعيداً وليتحرر من عقبات الفن التقليدي.

www-fenon-com-art-hamed-abdalla-حامد-عبد-الله-016.jpg

ففي كلٍّ من مراحله المختلفة، كان التجريب هو طوطم الفنان، وبالتالي التميز، سواء في مراحله التشخيصية أو في ميله نحو التجريد في مراحله الأخيرة. فامتازت المائيات، التي بدأها منذ ثلاثينات القرن الماضي، بألوانها المضيئة التي تعكس البيئة والمناخ  في مصر، من خلال مشاهد من الحياة اليومية للبسطاء. فقدم مجموعات لونية جديدة تماماً على الجمهور الغربي. وفي لقاء إذاعي أثناء زيارته لباريس، وحين سألته الصحافة عن هذه الصورة المختلفة التي يطرحها عن بلده، كان ردّه: "ألواني تتناسب مع طبيعتي كمصري، فالرسامون الغربيون لديهم اعتقاد خاطيء بأن الشرق يوحي بألوان حارة كالأصفر والبرتقالي الخ. بينما الأبيض هو الذي يسيطر على لوحة الألوان المصرية، ويعود السبب في ذلك إلى أن النور الباهر الذي تتميز به مصر يضعف من كثافة الألوان وحدّتها. ومن وجهة نظر أخرى لا توجد عندنا ظاهرة التضاد اللوني الشديد ذاك لأن الضوء القوي ينعكس على الظل فيضيء الظل".

وحين شرع الفنان في عمل جداريات، بدءاً من الأربعينات، تميز عمله بالتركيب وبالجرأة في استخدام المساحات اللونية الكبيرة، وبعد عودته إلى مصر إثر جولة أوروبية في 1951، اتسمت لوحاته التشخيصية بالفورم الأقرب إلى الكتلة النحتية في تناوله لنماذج شعبية مثلما هو الحال في لوحات "زلطة" أو "أمومة" أو "محادثة"، حيث ظهرت الخطوط السوداء الحادة التي تبرز القوة في التعبير. وكتب عنه الناقد الشهير إيميه آزار: "استمر عبد الله في تفريغ الأشكال حتى يقدم نبرة الطبقة الاجتماعية المعدمة –لكن الواعية-  في حقيقتها المريرة، مثلما يظهر في لوحة (زلطة) التي تتميز بتعبيرية قوية وموجزة في آن واحد".

www-fenon-com-art-hamed-abdalla-حامد-عبد-الله-007.jpg

الحروف كصور وأجساد
ثم تأتي مرحلة ارتجالات الخط التجريدي، والتي عكف عليها الفنان وكان رائداً فيها أيضاً، فتعامل مع الحروف العربية في علاقتها بالفورم الانساني وليس بمفهوم الخط العربي وقواعده، أو، كما يفسر هذه "الحروفية" الناقد بدر الدين أبو غازي في الكتاب: انشغل حامد عبدالله بالحرف العربي وجدّد في تمثيله، مؤسِّساً عالماً تشكيلياً لا علاقة له بالزخرف أو الزينة، لكنه اتخذ من الحرف الغاية والوسيلة، يعيد بناءه من جديد ليس بصفته رمزاً، بل بصفته المشتركة حرف – فورم أو حرف – صورة، أي أن الحروف تفقد وجودها الصوتي لتصبح أجساداً مستقلة تعبر عن المضمون والمعنى.

وتجلّى هذا التوجه في أعمال حامد عبدالله، لا سيما تلك اللوحة التي عرضت للمرة الأولى في سفارة فرنسا بالقاهرة وفي المعهد الفرنسي للثقافة والتعاون بالاسكندرية الأسبوع الماضي، والتي تحمل عنوان "الغيبوبة". وهي اللوحة التي تعكس أيضا الروح الحداثية الوثابة لدى عبدالله. فمساحة العمل هي 14 متر عرضاً وبطول متر واحد، وهو أشبه بالعمل المركب أو التجهيز في الفراغ الذي انتشر في مصر بعد عقد من وفاة الفنان، يتألف من مربعات منفصلة متصلة تكوّن لوحات تعرض في سرداب أقرب إلى المتاهة، وتعبّر باقتدار عن فلسفة الحروفية التعبيرية لدى الفنان. يعبّد السرداب بكلمات مثل: البلادة، الجمود، الجدب، القهر، المجاعة.. والتي عكست حالة الغضب والقهر التي انتابت الفنان في زيارته الأخيرة لمصر قبل وفاته.

souleve-toi-1970.jpg
"إنهض" (1970)

يشرح ابنه، سمير عبدالله، المخرج صاحب الشريط التسجيلي "الحصار"، الأجواء التي أفضت إلى هذا العمل، فيقول أنه في الفترة "ما بين 1979 و1983 وكان قد عقد العزم على العودة إلى مصر، لكنه في آخر زياراته فوجيء بمجتمع خامل متحجر، وباستبداد سياسي، خصوصاً بعد معاهدة كامب ديفيد، فثار على حالة البؤس التي غرق فيها الشعب". ويعزو سمير، إلى هذه الزيارة الأخيرة، حالة الاكتئاب التي تمكنت من والده وأودت به إلى المرض والرحيل.

هو هذا التماهي بين المعنى والشكل الذي ظل حامد عبد الله يبحث بينهما في الخط التجريدي، البحث عن الجوهر أوعن عيون الكلام التي تغنى بها الشيخ إمام مع أحمد فؤاد نجم، حين "مات البصر في العيون والبصاير/ وغاب الطريق في الخطوط والدواير/ يا ساير يا داير يا ابو المفهومية/ مافيش لك دليل غير عيون الكلام". وحين أراد محبو عبد الله أن يجدوا عنواناً فرنسياً للكتاب لم يجدوا أفضل من "عيون الوعي"، أو أمارات هذا الفنان الحداثي الذي تناول الطبيعة، لا كما تراها عيناه، بل كما يراها وعيه.


increase حجم الخط decrease