الثلاثاء 2015/05/12

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

عن 18 بقرة إسرائيلية درّت "حليب الانتفاضة"

الثلاثاء 2015/05/12
عن 18 بقرة إسرائيلية درّت "حليب الانتفاضة"
تُعاد البقرات إلى إسرائيل بعد أوسلو 1993: "لقد خاننا الإسرائيليون والفلسطينيون"
increase حجم الخط decrease
سبق أن عُرض الفيلم الفلسطيني "المطلوبون الـ18"، إخراج الفلسطيني عامر الشوملي بمشاركة الكندي بول كاون، في مهرجانات عديدة ونال جائزة مهرجان أبوظبي كأفضل فيلم وثائقي في العالم العربي في نوفمبر 2014، لكنه مع ذلك يكتسب دلالات عديدة مع عرضه في مصر في إطار "مهرجان آفاق" (الصندوق العربي للثقافة والفنون) الذي عقدت دورته الثانية في سينما الزاوية قبل أيام. اذ تزامن عرض الفيلم مع تدشين "الحملة الشعبية المصرية لمقاطعة اسرائيل" BDS-مصر، والأهم من ذلك أن أجواء الفيلم التي تستعيد نموذج المقاومة لقرية "بيت ساحور" تتقاطع في العديد من المشاهد والأحداث، لتذكرنا بأحداث ثورة 2011 المصرية وما تلاها من ردة على كل المكتسبات السياسية والديموقراطية.

أما عن علاقته بالمقاطعة الاقتصادية مع اسرائيل التي خبت جذوتها مع الثورات العربية، فالفيلم يسترجع زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى ما بين 1987 و1993، حين اشترى أهالي بيت ساحور 18 بقرة من الكيبوتس الاسرائيلية ليحققوا الاكتفاء الذاتي من منتجات الألبان، وأسسوا تعاونية لانتاج ما أطلق عليه "حليب الانتفاضة"، ومضوا في قراراهم بمقاطعة المنتجات الاسرائيلية. ثم اتسعت الحملة لتشمل الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية وغيرها، ورفض أهالي بيت ساحور دفع الضرائب للمحتل الاسرائيلي مما جعله يزيد من قمعه واعتقالاته وفرضه لحظر التجوال، خوفا ورعباً من أن تنتقل "عدوى" بيت ساحور إلى باقي البلدات الفلسطينية. 

ولا يخلو الشريط من خفة دم حين يصور لنا البقرات، منذ البداية، بتقنية الرسوم المتحركة ويجسد المخرجان البقرات المختلفة، وهن قادمات من اسرائيل في البداية، مملوءات بالأفكار الجاهزة المنمطة. فتقول إحدى البقرات لزميلتها تعليقاً على الانتفاضة، وهي تطالع الجريدة الغربية، أن الفلسطينيين كسالى لا يعملون ولا يجيدون سوى الغلبة والمظاهرات. ثم تتطور البقرات في بيت ساحور، هناك حيث نعلم من الفيلم أن تربية البقر لم تكن موجودة لدى ابناء فلسطين الذين اعتادوا تربية الماعز، وتشعر الأبقار بالعرفان –ربما- حينما "تنخرط" في حياة الأهالي و"تروي" كيف يستميت الفلسطينيون في الدفاع عنها ويهربونها من مكان إلىى آخر حين تصبح، بين ليلة وضحاها، "مطلوبة". ويجن جنون أفراد جيش الاحتلال، فيفتشون عن البقرات في كل مكان، ويضعون الملصقات التي تحمل صورة كل بقرة على الجدران.

وفي مشهد من أشد المشاهد سخرية وألماً –إذ يذكرنا بمشاهد طرد الفلسطينيين من ديارهم التي وردت في أكثر من شريط مثل "باب الشمس"- تمر العربات المصفحة تعلوها مكبرات الصوت مهددة ومتوعدة: "يا أهالي بيت ساحور سلّموا الأبقار تسلموا"، وتصل الكوميديا إلى مداها حين يروي أحد الذي شاركوا في أحداث بيت ساحور ان الجيش الاسرائيلي اعتبر وقتذاك "أن هذه البقرات تهدد أمن دولة اسرائيل"، وهي الجملة العبقرية التي يرن صداها طويلاً بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم، ليست غريبة على مسامع المشاهد العربي لكنها تجسد هنا ببراعة عبثية، هذه الفزاعة التي تسمى "أمن اسرائيل" حين يقترن الأمر بمصير الأبقار الـ18.


فالنكتة وخفة الدم والكوميديا السوداء، تميز الفيلم عن غيره من الافلام الفلسطينية التي إما تتناول القضية الفلسطينية بشكل خطابي وميلودرامي عفا عليه الزمن، أو تتبنى رؤية حيادية تصب اللوم على المحتل المغتصب وعلى السلطة الوطنية وعلى المناضل الفلسطيني نفسه، بل وتسعى الى "العدالة" في توزيع اللوم هنا وهناك، مراعاة للانتاج المشترك الغربي. اما هنا في "المطلوبون الـ18"، يبتعد الفيلم عن الشعارات والقضايا الكبرى وأحاديث الساسة ومفاوضاتهم، لتقترب الكاميرا ببراعة من حياة الناس العادية وأحلامهم، فنرى الفلسطيني المزارع والراعي والمدرس والفيزيائي وليس فقط نموذج المناضل، بل يصبح النضال الحقيقي في مكابدة القمع اليومي بالعادية والأريحية ورباطة الجأش.

نشهد من خلال الشريط صمود أهالي بيت ساحور اليومي في التحايل على حظر التجوال وتحويله إلى فضاءات للسمر والحكي ولعب النرد والشطرنج، والتفنن أحياناً في إغاظة قوات الاحتلال بأن يصمم أحد أهالي البلدة دمية لبقرة ترفرف بأجنحتها معلقة في سقف أحد البيوت، لتثير استفزاز الجندي الباحث عن البقرات، فيشل بفظاظته المعروفة حركة اللعبة تماماً ويخرسها، أو قد يتوافق الجميع على سماع الأغنية نفسها لأم كلثوم في التوقيت ذاته في الديار المختلفة، رغم أنف حظر التجوال.

فبأثر من طبقات الفيلم المختلفة، ما بين وثائقي وروائي (شعري)، تتجلى خفة دم من نوع خاص، تضع الاسرائيلي أمام المرآة، ليس فقط لنسخر منه ومن خوفه أو ذعره المرضي من ضحيته، ولكن لنتعرف على الحقيقة من زاوية جديدة تختلف عما تبثه نشرات الأخبار عن فلسطينيي الداخل.

وتنتهي قصة نضال بيت ساحور ويتوقف الكر والفر مع بلوغ اتفاقية أوسلو في العام 1993 التي وضعت نقطة النهاية للانتفاضة، وجعلت كل ما دُفع من أثمان للحرية يذهب –في نظر الكثيرين- ادراج الرياح. وتتزامن أحداث أوسلو مع استشهاد انطون شوملي برصاصات الاحتلال، ويصف الراوي-المخرج الفلسطيني وهو ابن عم المناضل الشاب- الكنيسة وقد امتلأت عن آخرها بالفلسطينيين من كل حدب ولون، ليتساءل: هل كانوا يودعون جثمان الشهيد أم ينعون نهاية الانتفاضة نهاية مريرة؟

بينما يتم العثور على البقرات، ويأخذها الجانب الاسرائيلي إلى مصيرها المحتوم للذبح، فنسمع حوار البقرات الأخير في الشاحنة فيما بينهن قائلات "لقد تمت خيانتنا من الاسرائيليين ومن الفلسطينيين" في اشارة إلى نهاية الانتفاضة باتفاقية أوسلو رغم كل التضحيات. تماماً مثلما حدث بعد ثورة يناير المصرية، إذ تم اجتثاث روح الثورة ونتائجها من جذورها، وكما نرى اليوم معظم جدعان الثورة في المعتقلات، صار "جيل الانتفاضة اليوم يُنظر إليه كجيل فاشل" كما يقول المخرج شوملي في حواره مع الجمهور المصري عبر السكايب –لصعوبة حصوله على تأشيرة للقاهرة.
 

عروض "المطلوبون الـ18"

75 دقيقة، إخراج عامر شوملي وبول كاون، إنتاج مشترك كندا/ فلسطين/ فرنسا.
عرض الفيلم في مقهى "تاء مربوطة" في بيروت، والعرض المقبل في باريس نهاية أيار/مايو، ضمن مهرجان فلسطيني. أما العرض الأهم ففي 10 حزيرانميونيو في نيويورك ضمن "مهرجان أفلام هيومن رايتس ووتش". وبعده بأيام سيفتتح الفيلم تجارياً في قاعات سينما نيويورك ولوس انجليس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها