الثلاثاء 2014/07/01

آخر تحديث: 14:34 (بيروت)

"هوى الحرية": التاريخ المصري المكتوم

الثلاثاء 2014/07/01
"هوى الحرية": التاريخ المصري المكتوم
زينب مجدي في شخصية "الباحثة" (روود جيلينز)
increase حجم الخط decrease
في مهرجان "ليفت" في قلب العاصمة البريطانية، قدمت المخرجة المصرية ليلى سليمان، على مدى أيام ثلاثة، عرضها المسرحي المميز "هوى الحرية"، بعدما قدمته الأسبوع الماضي في المركز المصري للثقافة والفنون - "مكان". ينبش العرض في الذاكرة الجمعية، وفي المسكوت عنه من التاريخ إبان الحرب العالمية الأولى وثورة 1919 ليثمن هوى المصريين للحرية على مرّ الأزمنة.

وقفت الجموع متزاحمة أمام قاعة "مكان"، حيث الدخول بأسبقية الحجز، بينما القاعة صغيرة لا تتسع لمن شاهدوا عروض ليلى سليمان السابقة وجاءوا متطلعين إلى مشاهدة جديدها قبل أن تطير مع فريق العمل إلى لندن لتشارك في مهرجان "ليفت" المسرحي. في لحظات الانتظار السابقة للعرض، اصطف الجمهور في الساحة المواجهة لضريح سعد زغلول، حيث المكان له دلالته البالغة، إذ يتناول عرض "هوى الحرية" ثورة 1919 وما قبلها وسنوات الحرب العالمية الأولى. تتصاعد الهمهمات والتعليقات هنا وهناك، بين جمهور معظمه شباب. هناك من يأتي للمرة الأولى ليتعرف إلى مسرح ليلى سليمان المعروفة بالجدية والالتزام، وهناك عشرات يعرفون أعمالها جيداً وانحيازها للثورة والثوار، وبشغف ينتظرون "بلة ريق" وسط كل ما يدور في الساحة من منع وقمع واعتقالات. تقول إحدى الحاضرات: "لم أشأ أن أشاهد عرض ليلى السابق (دروس في الثورة) لأني أعتقد أن الوقت ما زال مبكراً على تناول حدث مثل الثورة، وهو ما زال في طور التشكل، بصورة فنية، وأنه من الأجدى اتخاذ المسافة الزمنية الكافية واستيعاب وهضم الأحداث قبل التعبير عنها درامياً". في حين تندرج أعمال سليمان على أقصى النقيض من تلك المقولة. فما يشغلها هو تحديداً كتابة التاريخ هنا والآن، التاريخ الحي أثناء تشكله على الأرض، بينما تعاد كتاتبه أو طمسه وتشويهه، وهو ما جعلها تميل إلى نوع "المسرح التوثيقي"، وليس في العرض الحالي وحده، بل في مجمل أعمالها.

"لم يكن طموحي هو التأريخ للأحداث، إنما مشاركة الناس في تذكر أشياء انطوت ولم يعد أحد يبوح بها أويتناولها في العلن"، تقول المخرجة لـ"المدن". منذ ثورة 25 يناير، أصبح شاغلها وهمها الرئيس هو "كيف يكتب التاريخ؟". تفسر سليمان ذلك قائلة: "في اللحظة التي أعيشها منذ 2011، من يكتب التاريخ وكيف يتنافى مع كل ما أعايشه لحظة بلحظة؟ مَن السبب مثلاً في أحداث العنف؟ أو في تطورات محاكمات المتسببين في العنف، أو أحكام البراءة المتتابعة التي ينالها رجال الأمن والشرطة؟ هناك دائماً روايات متعددة للتاريخ، ومتناقضة، وأدوات التكنولوجيا تظل محدودة في عمرها القصير".

بدا المسرح بالنسبة إليها، طوطم الذاكرة الجمعية بامتياز، توثق من خلاله تاريخاً بديلاً حول الواقع اليومي والبطولات الصغيرة التي يتناساها التاريخ الرسمي. وفي عملها الجديد "هوى الحرية"، نشأت فكرة العرض حينما أعلن مهرجان "ليفت" البريطاني بحثه عن أنواع مسرح ما بعد الدرامية، أو مسرح سياسي يتناول الحرب العالمية الأولى، وتلاقت الفكرة مع ميل سليمان إلى تقديم التاريخ الشعبي الذي يُهال عليه التراب. وأثناء العمل، "اكتشفتُ أن الناس ليست لديها معلومات عن الحرب العالمية الأولى، ما بقى فقط في الذاكرة الجمعية هو أن ثورة 1919 كانت نتاجاً للحرب العالمية الأولى، ولم يبق من تراث أغنيات تلك الفترة غير القليل الذي أعيد تدويره في ثورة 2011".

هكذا، راحت سليمان تفتش في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية، وتنبش في تراث الأغنيات منذ 1919 وحتى 1914، وفي شهادات المواطنين للمحامي العام البريطاني. وأسندت هذه المهمة باقتدار، لعلياء مسلم، الباحثة في التاريخ الثقافي. أما الممثلتان اللتان قامتا بالعرض كاملاً، فقد تناوبتا على الأدوار ما بين الروايات المتعددة للتاريخ: التاريخ الرسمي والشعبي. الأول من خلال شخصية باحثة تفتش في التاريخ المسكوت عنه (وجسدته زينب مجدي)، والثاني من خلال الراوية الشعبية التي تدير الاسطوانات القديمة في الفونوغراف، وتصدح بصوتها الجبلي الفاتن (وأدّته الفنانة السورية ناندا محمد). ومن خلال أدائهما المونولوغات التي ساهمت الفنانتان في كتابتها مع الباحثة ومع المخرجة، تتداخل الأصوات وتتماهى الحدود الفاصلة بين الذاكرة الجمعية الرسمية وبين الرواية الشعبية. فيكشف السرد عن القمع اليومي الذي مارسه الاستعمار البريطاني على المواطن، والذي قلما تم التأريخ له. ويفتش في رسائل المواطنين العاديين، إنما ليس كما اعتدنا الكشف عن رسائل كبار القوم مع "السير" فلان و"اللورد" علان، بل مثلاً في تحقيق أجري مع شاهدة اعتدى عليها جسدياً عسكري بريطاني. فتتقاطع مشاهد التاريخ القديم مع ما يجري اليوم، ويدرك المتلقي إلى أي مدى تشبه الليلة، البارحة. بالأمس، حين تسامح الحاكم العسكري البريطاني مع استباحة أجساد المواطنات، واليوم حين استباح المجلس العسكري أجساد المواطنين في موقعة "ماسبيرو" الشهيرة والتي راح ضحيتها 33 شخصاً من أقباط مصر. وتتضافر الذاكرة الموسيقية مع أحداث العرض ببراعة، فنسمع، بعد شهادة الاعتداء على السيدة، أغنية "باردون يا وينجت"، لتصبح الأغنية شهادة شعبية حية تكشف عن المرحلة وعلاقاتها الاجتماعية:
"باردون يا وينجت/ بلدنا غلبت/ خدنو الشعير وجمال وحمير/ والقمح كتير/ اعتقونا".. أو في خاتمتها: "باردون يا وينجت/بلدنا غلبت/ قتلوا ولادنا/ نهبوا بلدنا/ اخدوا دريسنا/ اعتقونا".



زينب مجدي وناندا محمد في مشهد من العرض (روود جيلينز)


وينفتح صندوق باندورا الأسطوري أمام صانعي العرض، أي المادة الأرشيفية البريطانية التي صارت متاحة اليوم. فيزاح الستار عن "500 ألف إلى مليون مصري، اتجرجروا في الحرب العالمية الأولى. شوية رحلوهم فرنسا، وشوية سينا، وشوية مع الجيش البريطاني في دخلته الشهيرة على فلسطين. ساهموا في حرب مالهمش أي علاقة بيها وفي كرب أمة بتدفع تمنه أجيال". ولا يتوقف التاريخ الشعبي عند نضال الفلاحين والفقراء في ثورة 1919، أو سرد بطولات سعد زغلول، بل يرجع بالذاكرة إلى النضالات الصغيرة التي لم يؤرَّخ لها، إلى العام 1917 الذي يكاد يكون حركة ثورية كاملة.

تعتبر سليمان أن "ثورة 1919 كانت أكثر تنظيماً وتسييساً، مثلها مثل ثورة 30 يونيو 2013، لها ما يشبه القائد، أما المعارضون فليذهبوا وراء الشمس، بينما كانت 1917 نابعة من الغضب الشعبي ومن ظروف الحرب التي طالما تحملها الناس، لكن مع ازدياد عنف الجيش البريطاني، تحولت إلى ثورة تقودها الجموع في الأقاليم، وليس المدن كما هو معتاد.. ومن هنا كانت صعوبة التنقيب عنها وإيجاد الوثائق، إذ يصعب الوصول إلى معلومات عن الشهداء وعن الفلاحين المناضلين وغيرها".

وتتشابك أحداث القهر والقمع اليومي وبطش المستعمر بالأمس، مع حبس الناشطين السياسيين اليوم، والذين تزايد عددهم أضعافاً مضاعفة منذ اندلاع ثورة 2011. فتتناول الباحثة بعضاً من رسائل علاء عبد الفتاح داخل السجن (الذي حكم عليه غيابياً، مؤخراً، بالسجن 15 عاماً في ضوء "خرق قانون التظاهر"). ويعلو صوت ناندا محمد بأغنية "زوروني كل سنة مرة" (1914)، والتي كتبت للمعتقلين في أوج انتشار السجن السياسي. وتقرر الباحثة في نهاية العرض التوقف عن قراءة بحثها، مفضلة أن تحكي ما عاشته وشاهدته من قرب، وليس ما تسجله كتب التاريخ.

(*) قدمت ليلي سليمان عرضها المسرحي الجديد "هوي الحرية" في المركز المصري للثقافة والفنون - "مكان"، وفي مهرجان "ليفت" البريطاني خلال حزيران/يونيو الماضي. وتنتقل، في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، إلى "مهرجان أصوات المقاومة" في مسرح جوركي - برلين، ثم إلى "كاي تياتر" - بروكسل في كانون الثاني/يناير 2015.
increase حجم الخط decrease