الأربعاء 2013/08/14

آخر تحديث: 00:06 (بيروت)

"بلو": حين يكون الخلاص من العشق عشقاً

الأربعاء 2013/08/14
"بلو": حين يكون الخلاص من العشق عشقاً
محمود توفيق موقّعاً روايته في "الكتب خان" بالقاهرة قبل أسابيع
increase حجم الخط decrease
 إذا حدث ووقعت بين يديك عن طريق الصدفة مجموعة قصصية بعنوان "بلو"، من دون أن تعرف تاريخ صدورها، ستتمكن من استنتاج أنها كتبت بعد الثورة المصرية، وأن كاتبها هو يقيناً من الكتّاب الشباب، لكنك قد لا تصدق أن هذه المجموعة المتميزة هي العمل الأول لمؤلفها محمود توفيق. وهذا ليس لأن بها رطانة ثورية -قد تعيب أعمالاً صدرت بعد 25 يناير- بل إن النصوص التي تتخذ من الثورة خلفية لها لا تتجاوز القصتين "شوارع الثورة" و "ساونا ساونا.. حتى النصر".

تكشف القصة الأولى، من خلال حكاية حب باعدت الأيام بين بطليها، أهمية معرفة أسماء الشوارع في أيام المواجهات والتظاهرات والاشتباكات المتلاحقة في شوارع وسط البلد، "عندها تتحول مسألة معرفة أسماء الشوارع إلى مسألة حياة أو موت". أما القصة الثانية، فتغوص في عالم ما يطلق عليه "فلول" الثورة، من خلال صعود وخفوت علاقات القوة بين قيادات في الداخلية، بعضها أحيل إلى المعاش وأسّس حزباً وبعضها كان متورطاً في "الأحداث" وحصل على البراءة. "هل ثمة ما يلخص تاريخ مصر في القرن الماضي بشكل أفضل من هذه القائمة القصيرة؟ انحسار نفوذ المستعمرين ومن ثم الطبقة الأرستقراطية، انتهاء ببروز نخبة جديدة، أرستقراطية جديدة إن شئت قوامها رجال الجيش والأمن".
 
لكن إذا استثنينا هاتين القصتين سنجد أن ظلال الثورة تنعكس في "تثوير" الكتابة ذاتها عبر القصص المختلفة، وفي اللغة التي تنشد التحرر من أي قيد، وفي اختيار زاوية نظر مختلفة عما اعتدناه في العديد من النصوص المعاصرة. ينهل محمود توفيق من الواقع ليصنع شخصيات بعيدة كل البعد عن البطولة الخارقة، كما أنها بعيدة عن فكرة المهمّشين التي تم استهلاكها وتجاوزها اليوم، "هل لأن غالبية من كانوا في المتن بالأمس القريب صاروا اليوم هم محتلي الهامش بجدارة؟". قد تكون شخصيات عالمه القصصي أقرب إلى "الكومبارس" الذي لا يلفت وجوده سوى عين الفنان الخبير، تماماً كما لو أنك تشاهد لوحة بانورامية لأحد المشاهد بتفاصيله الدقيقة، بينما لا يهتم صاحب اللوحة حين يختار عنواناً لها سوى بتفصيلة عابرة، كأن يكون وشاح ملقى في ركن اللوحة، إبريق صغير أو زهرة فاضت عن الإناء وتدلّت وحيدة... يريد الفنان بذلك أن يجذب نظر المتلقي إلى زاوية نظر جديدة، وإلى كل ما لا تألفه عينه، علّه يعيد ترتيب علاقات اللوحة من جديد.
 
هذا ما يفعله توفيق في مجموعته "بلو" حين يسلط عدسته السردية على الشخصيات الثانوية، تلك التي لا يكتمل المشهد إلا بها، لكنها لا تثير فضول العابرين. يختار توفيق شخصية المترجم وليس الكاتب الشهير (في قصة مرآة)، والمقرئ الاصطناعي في البلد الأوروبي (في قصة عمّة سوبر ستار)، أو الشاب العاطل الذي يشرع في حل أزمته المادية بالعمل في أفلام "البورنو"، متوهماً أن الصفقة قد تسمح له أيضاً بالدخول في أول تجربة جنسية، أو السيدة الأربعينية "بطلة" العمل نفسه "بورنو" والتي يصفها بهذه الكلمات: "قدرت سنّها بحوالى أربعين عاماً، إحدى هؤلاء النساء العاديات في منتصف العمر اللاتي أرى منهن المئات يومياً في الشارع وفي المواصلات العامة وخلف الخزنة في السوبر ماركت وعند الخبّاز، وفي صالونات الحلاقة والصيدليات وأكشاك السجائر. على وجهها علامات القهر وفي عينيها نظرة حزن قابلة للتفاوض. كان يمكن أن تكون أمّاً لأحد أصدقائي".
 
فإذا كانت القصة القصيرة تقليدياً تعتمد في تكوينها على عنصر المفاجأة (دخول  عنصر غير مألوف أو خارق.. الخ)، فإن المفاجأة تأتي في قصص هذه المجموعة من عالم الشخصية غير المطروق و تفاعل الشخصية مع العلاقات الإنسانية الأخرى، وتحديداً من تبادل الأدوار ما بين الدور الرئيسي ودور الظل أو الكومبارس. ففي قصة "مرآة"، يركز الكاتب على "صورة" الكاتب المشهور، ليختبر مدى هشاشة فكرة الصورة ذاتها، وكيف يمكن تحديد الأصل والصورة عبر لعبة المرايا اللانهائية. يسعى المترجم في هذه القصة إلى تقليد طريقة أداء الكاتب المشهور في كل حركاته وسكناته ليصبح صورة طبق الأصل عن الكاتب، إنما الناطق باللغة التي يتحدثها الجمهور، فيجتمع الناس حوله يصافحونه ويهنئونه على أدائه، ما يثير غيرة الكاتب فيطلب من إدارة المهرجان أن يجلس المترجم في كابينة مغلقة في منأى عن الجمهور، وحين لا ينجح الأمر يتوجه بنفسه إلى "غريمه" طالباً منه "أريدك أن تترجم بحماسة أقل. شيء ما في صوتك يستفزني"، وفي النهاية يضيق الكاتب من "القرين" الذي يتفوق على "الأصل" فيتوجه في النهاية إلى الإدارة طالباً أن يقرأ نصوصه ليس من فوق المنصة أو بين الجمهور، بل... من كابينة المترجم.
 
أما في قصة "سماعي"، فيعتمد توفيق على مناقضة الأسطورة، أسطورة عشق إيزيس وأوزوريس، ورحلة البحث عن الحبيب لتتماهى المسافة الفاصلة بين الحب والجفاء وبين العشق والفتور.
 
ينعكس في "سماعي" تأثر محمود توفيق (مواليد 1978) بالأجواء التي عمل فيها كمحرّر ومراسل لإذاعات ألمانية مختلفة، سواء من عنوان النص أو من اعتماد حاسّة السمع المرهف بطلاً رئيسياً للعمل. إذ يجترّ العاشق قصة حبه "المأسوية" على حد وصفه حين وصل إلى المدينة الغربية وبدأ عمله مسلحاً بميكروفون شديد الحساسية يسجل عبره أصوات المدينة وصخبها، و تشاء الصدفة (أو الأقدار) أن يسمع ضحكة حبيبته التي لا يمكن أن يخطئها: "لن أنسى هذه الضحكة ما حييت". يذهب العاشق القديم ليقتفي أثر "الضحكة" في المدينة الكبيرة تارة على خلفية صوت ترام، وتارة على أصوات بائع الشاورما، وتارة أخرى في الحانات، على مدى عام كامل بلا جدوى. لا يعثر عليها لكنها تأتي هي إليه بعد عامين تطلب منه الصفح، ويندم المحب السابق على أنه لم ينجح في العثور عليها أولا حتى في أن يطلب منها "أن تعود من حيث أتت، لأن هذه المدينة وعلى الرغم من كبرها لن تسعنا نحن الاثنين".

لا تعود دلالة رحلة البحث هنا، في الاكتمال مع الحبيب، بل لتأكيد القطيعة والإمعان في البتر. يعلن المحب "فشله" في العثور على المحبوبة التي كانت، لكنه في فشله في الوصول إلى المنتهى يعلن بشكل مضمر، فشله في تجاوز حالة العشق. 
 
increase حجم الخط decrease